أرمينيا في التاريخ

بقلم: الوزير  ميشال اده (*)

إذا شئنا التفاؤل بما سوف يأتي، يتعيّن علينا أن نستذكر ما قد أتى. شعب بلا ذاكرة، أعزل بلا تاريخ، يظلّ في الحاضر تائهًا شريدًا على قارعات الطرق، ولا يقوم edde.-1jpgله مستقبل، وإنّ لنا في هذا الكتاب- السّفر عن “شعراؤنا” خير شاهد على الأهمية الحيوية القصوى للذاكرة في صوغ تكاوين الشخصية، والهوية، والخصوصية، بالنسبة للشعب الأرمني ولحضوره العريق، سالفًا وحاضرًا، في خضمّ المسيرة الطويلة التي قطعها عالمنا الواحد على هذا الكوكب، حافلةً بالمشقّات والأهوال، وبإنجازات التقدّم في آن.

وأبلغ أمثولة ينطوي عليها هذا الكتاب تأكيده البيّن بالشِّعر الحيّ- وأعني أساسًا باللحم الحيّ- على أنّ الذاكرة الواحدة للجماعة هي خير سلاح وأمضاه من أجل نسج اللّحمة والتماسك المتين بين أبنائها ومكوّناتها، عبر الأزمنة والأزمات، وللتغلّب على أعتى صنوف المعاناة، مآسٍ، مظالم واضطهادات.

هذه المهمة، على نبلها الإنساني الخلاّق، مسألة بالغة الصعوبة. لا سيّما إذا رامت التحلّي بالموضوعية، متأبّية الانزلاق إلى “فبركة” تاريخ أو اصطناعه بالانتقائية أو بالتزيين، وكلاهما تزييف لا ينتج سوى وعي مشوّه لتاريخ مزعوم.

على أساس الوعي المبني على المعرفة الموضوعية وتحرّيها في مصادرها ومظانّها، نهض إلى تلك المهمة الجليلة نخبة من الأكاديميين والعلماء والباحثين المرموقين في أبرز الجامعات والمعاهد في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وانكلترا وإيطاليا ولبنان. وأحسب أن جهودهم المتضافرة أثمرت فعلاً إحاطة دقيقة وشاملة بخارطة الجغرافيا الأرمنية وتضاريس تاريخها، منذ بداياتها الأولى، وفي مواطنها المتعاقبة الأولى، إلى رسوخها الأرميني في أرمينيا، وفي الشتات المتعدّد البالغ الثراء والغنى للأرمن أنفسهم وللبلدان غير الأرمنية التي نعمت حقًّا هي أيضًا باستضافتهم، وبثمار إقامتهم، وتفتّح حضورهم، في لدنها.

على امتداد ألفيّتين ونيّف- إن لم نقل ثلاثًا- يرتسم في دراسات كلّ من أولئك الأكاديميين، معالم تاريخ الأرمن، منذ مطالع حضورهم وأدوارهم في الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية ثم ما قد يصحّ تسميته بأرمينيا الكبرى في ظلّ الخلافات الإسلامية العربية، أو في ظلّ السيادة الجيورجية زمن الحروب الصليبية، ثم تحت نير المغول والتركمان والأتراك العثمانيين منذ القرن الخامس عشر حتى التاسع عشر، ناهيك عن حضورهم في تلك الأزمنة في منطقة الدياسبورا والانتشار الأرمني القديم ثم الحديث، وصولاً إلى الجمهورية الأرمينية المستقلّة الأولى (1918 – 1920) فعهد الانتداب الفرنسي على قيليقيا Cilicie بعد الحرب العالمية الأولى حتى زمن جمهورية أرمينيا السوڤياتية التي استعادت كياناتها الأرمينية الحرّة مع انهيار الاتحاد السوڤياتي.

خلال كلّ تلك الأوضاع غير الطبيعية التي عانى منها الأرمن، شعبًا، دولةً وهوية، لم يُمّحَ الأرمن، بل حافظوا على تميّزهم وشخصيتهم في التاريخ الذي عرفوا  فيه العزّ والشقاء، العظمة والتعاسة. ولقد أجاد هذا الكتاب في تتبّع وإبراز خصوصية التاريخ الأرمني في الأدب والشعر والرسم والذي بدأ في الألفية الأولى قبل المسيح مع مجيء هذا الشعب من أوروبا، لتكتمل ولادته الفعلية منذ اعتناقه المسيحية في العام 301م، بابتداعه أبجديته الخاصة ما بين 392 و406م، وفي بلورة هويته في رحم وعذابات مقاومته ودفاعه عن إيمانه في معركة Awaraya (451م)، التي شكّلت علامة فارقة في مسار نضج واكتمال تكاوين هويته الوطنية.

لست هنا لأختزل كلّ هذا السّفر الضخم من التاريخ في عشرات الأسطر. هاجسي الأوّل من خلال ذلك، ليس إلاّ أداء التحية الواجبة لحضور هذا الشعب العظيم المتجذّر في أرض هذا الشرق، طاعنًا في جغرافيته، مشاركًا فعالاً في صنع تاريخه الإنساني الحضاري الزاهي. وتكفيني دلالة على ذلك الإشارة إلى عصر أرمينيا الذهبي في عهد ديكران الكبير Tigrane ملك سوريا الذي لقّب بملك الملوك قبيل قدوم الرومان. إنّها التحية الواجبة كذلك إلى الكفاحية النادرة التي تميّز بها هذا الشعب الأرمني بأجياله المتعاقبة في الوطن وفي الشتات وفي بلدان الانتشار المترامي. وذلك كلّه حفاظًا على أصالته وعلى حضوره الوضّاء المثقل بالإنجازات الحضارية، أينما حلّ أبناؤه، ومقاومةً عزّ نظيرها في مواجهة كلّ أشكال الاضطهاد وأشدّها شراسة، سواء تلك التي انهالت على الأرمن من الغرب الأوروبي أيام روما وبيزنطية، أو تلك التي عصفت بهم من الشرق أيضًا في أزمنة الفرس والمغول والأتراك وغيرهم.

julie cover

إنّها حقًّا لمقاومة جبّارة لم تدع هذا العصف المزدوج ينجح في اقتلاع الأرمن واجتثاثهم لا من الجغرافيا ولا من التاريخ. حتى المذبحة ومجازر 1915 التي لطّخت جبين الإنسانية بالعار لم تقوَ على إلغاء الأرمن، ولا القضاء على حيويتهم وكيانيتهم وتميّزهم الفريد. الإحساس بالانتماء والوعي إلى تاريخ واحد، وإلى ذاكرة واحدة، كانا على الدوام جذوةً متوهّجةً في أفئدة أبناء هذا الشعب وعقولهم وإبداعات حضورهم وكفاحهم الريادي، أيًّا كانت التبدّلات والتحوّلات التي تناوبت عليهم، في الوطن الأمّ وفي الشتات.

في هذا السياق، أجد نفسي في حديثي عنكم أيّها الأرمن وكأنّني أتحدّث عنّا، الموارنة واللبنانيين، بحقّ حقيق. كلانا متجذّر في هذا الشرق، وكلانا منتشر في أصقاع الأرض الأربعة. وكلانا بيئة تواصل وتفاعل استثنائية المثال بين الشرق والغرب. وكلانا حضور للحداثة وللنهضة في أرجاء هذا الشرق. وهذا كلّه رغم أوجاع المخاض الطويل الطويل والعذابات المرّة المريرة.

أجل! الموارنة واللبنانيون والأرمن، تجمعهم أوجه شبه أساسية في معاناة الماضي، وفي الذاكرة المشتركة، بفصول وعهود منها أساسية. كذلك هو الأمر نفسه في عراقة كلّ منها الثقافية والفنية والمعمارية والصناعية، الحضارية بكلمة، في الوطن الأم وحيثما حللنا في بلدان الانتشار. ولا يفوتني ذكر المآتي الأرمنيّة الخيّرة في زمن مصر الفاطميّة حيث كانت الاستعانة بوزراء أرمن في ذلك العهد الفاطمي ضرورة مصرية، ولو لم أعثر على بصمات الحضور الأرمني في عهد محمد علي. وليس حضور نوبار باشا هو المثال الأوحد الساطع في إنجازات مصر الحديثة.

بيد أنّ ما يجمعنا لا تقتصر أوجهه على الماضي، وعلى محض الذاكرة وحسب، بل نحن تجمعنا حقيقة متشابهة واحدة في الحاضر، في الآفاق والمستقبل كذلك. جوهر هذه الحقيقة وجذوتها الأمّ المتّقدة، حرصنا المشترك على احترام التنوّع، على قبول الآخر المختلف واحترامه باختلافه وتنوّعه. إنّ لكلّ من التاريخ الأرمني والتاريخ الماروني واللبناني، تجربةً بالغة الرسوخ عن غنى التنوّع وأهميته المطلقة، في مقابل ظلامية الأحادية وعقمها واستبداديتها.

أسمح لنفسها هنا، بأن لا أملّ من أن أستذكر وأكرّر أمامكم ما قاله لي الكاثوليكوس الراحل كاريكين: “…لقد اخترنا لبنان لأنّنا هنا في ربوعه نحافظ على أرمنيتنا مع لبنانيتنا الصافية… في حين أنّنا في فرنسا والولايات المتّحدة، على سبيل المثال، أو غيرهما، نتعرّض لاندماج كامل متكامل، أو لصهر ناجز، أي لذوبان الشخصية الأرمنية في الحالين. لذلك نعتبر لبنان بمثابة أرمينيا بالنسبة لنا”.

أجل هذا هو لبنان. بيئة مجتمعية واحدة انفطرت على التنوّع الديني والثقافي وحتى الإتني، وليس مطلقًا على الأحادية والتماثل. وهذا منذ ما قبل أن يصبح دولة حديثة. بل إنّ الدولة فيه قامت على أساس احترام هذا التنوّع والتمسّك به. واسمحوا لي هنا أن أحيّي انتباه الدراسة التي يتضمّنها كتاب “شعراؤنا” الذي يبرز النواحي التاريخية في اقلام مبدعيه إلى الفرادة المجتمعية اللبنانية التي نصّت في دستورها اللبناني على وجوب احترام حضور جميع العائلات الروحية بصورة كريمة متكافئة متوازنة، في حياة الدولة اللبنانية ومؤسساتها وإدارتها.

غير أنّني أقول هنا بكلّ اعتزاز: إنّ هذا اللبنان الذي احتضن الأرمن بيئة طبيعية قبل أن يكون ملاذًا، إنّما هو مدين أيضًا، بماضيه الحديث وبتاريخه المعاصر وبمستقبله، إلى مواطنينا من أبناء العائلة الروحية الأرمنية الكريمة التي باتت من مكوّنات نسيجه المجتمعي، ومن صانعي حياته السياسية والبرلمانية، وإدارته الرسمية، وحيويته الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والفنية، ومن مؤسّسي ومطوّري حضوره الريادي في بيئته العربية وفي العالم.

الشواغل والهموم اللبنانية كانت وتبقى، همومًا وشواغل عند اللبنانيين الأرمن. والحيوية اللبنانية، والسعي إلى ابتكار الحلول وسبل التقدّم في الأحوال الطبيعية، وحتى في قلب الأزمات، كان ويكون لأرمننا دائمًا نصيب راسخ في صوغها والتوصل إليها.

تريدون أمثلة؟

في الأمس القريب القريب جدًا، على امتداد شهر رمضان الفضيل الذي احتفل لبنان بفطره السعيد في أواخر العام الماضي، كان اللبنانيون يستمتعون، على شاشة “تلفزيون لبنان”، بمسلسل لطيف من أبرز شخصياته المسرحي اللبناني الكبير بيرج ڤازيليان Berge Vazelian، والذي تدين له بالكثير الكثير، ممثلاً ومخرجًا لافتًا، الحركة المسرحية اللبنانية.

وهل يُعْقَل تأريخ حقيقي للفنون التشكيلية اللبنانية بأبهى إبداعها وتميّزها وإنجازاتها وأعمالها، إذا لم تسطع على جبينه آثار وأعمال أسادور وبول غيراغوسيان، مثالاً وليس حصرًا؟

بل هل من بيّنة أنضج وأبهى على لبنانية أرمينيّينا، همومًا وشواغل وإبداعات، من استذكار العديد العديد من الكتّاب والصحافيين، والمبدعين الأرمن شعرًا وروايةً، وإعلامًا وفكرًا وسياسة؟ ومثالاً وليس حصرًا الراحل كرنيك عطاريان اللبناني الأرمني، الشاعر باللغة الفرنسية في نصّه الشهير: “الشمس تشرق من الجنوب” في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني وتغنّيه بجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي طاردت جيش الاحتلال آنذاك.

وهل بوسع أحد لبناني، مؤيّد أو معارض، في أي عهد رئاسي كان، أن يغفل ذكر المرحوم خاتشيك بابيكيان، هذه الشخصية الأرمنية المرموقة، والباقية دائمة الحضور في حياتنا السياسية، نائبًا لامعًا جدًا طبع بنضجه وتألّقه وصدقيته ولغته العربية أيضًا، حيوية متميّزة في العمل البرلماني، وفي العمل الوزاري كذلك، في حكومات لبنانية عديدة؟

أمّا في دنيا الاقتصاد والأعمال والمال وكلّ مجالات النباهة والإبداع الذهني والعلم والتكنولوجيا.. فحدّثْ ولا حَرَج عمّا للبنانيّينا الأرمن من حضور، ومن أفضال، ومن أياد بيضاء… وعلى سبيل المثال أيضًا وليس الحصر، أستذكر من هؤلاء الكبار رجالات من عائلات ماليكيان، وأبرويان، وشكرجيان، ودمرجيان، ويارفانيان، وطابوريان، ونجاريان، وبقليان وبقرادونيان، وغيرهم وغيرهم العديد العديد ممن كانوا أساسيين في الصناعة والاقتصاد والأعمال والمال وأعتذر عن عدم تمكّني هنا من ذكر جميع أولئك الرجال الذين يعدّون بالمئات والمئات.

كلّ هذه الأمثلة، إنّما أسوقها لأقول أمرًا واحدًا : اللبنانيون الأرمن هم في صلب وأساس إغناء صيغتنا المجتمعية الفريدة القائمة على التنوّع في العيش المشترك والديمقراطية والحرية.

إنّ إسهامات اللبنانيين الأرمن، بل إنّ تفتّحهم بعطاءاتهم وإبداعاتهم في لبنان، تشكّل بذاتها شهادة بليغة جدًا عن فرادة هذه الصيغة وغناها. مثلما هي تشهد في الوقت ذاته على هذا الغنى اللبناني الذي اعتبره قداسة الراحل الأكبر يوحنا بولس الثاني “رسالة” للعالمين، عندما قال: “إنّ لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالة”.

هذا الغنى لا يتمثّل فقط باحتضان لبنان التنوّع للأرمن، بل هو كذلك وأساسًا أيضًا، في إسهام الأرمن اللبنانيين بإغناء هذه الصيغة والتمسّك بها وحرصهم على الحفاظ عليها.

إنّ لنا فعلاً في هذا الكتاب السفر عن “شعراء الأرمن” خير شاهد على أنّنا جميعًا سُعاة عاملون على تأكيد حقيقة واحدة وهي أنّه قد آن الأوان حقًا لولوج حقبة نوعية جديدة من تاريخ البشرية، تصنع فيها شعوب كوكبنا، وإلى جانب بعضها البعض، التاريخ الإنساني الواحد، الحرّ الواحد، السلميّ الواحد. إنّ التحوّلات النوعية التي يشهدها العالم اليوم، شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، تدلّل بأحداثها المختلفة المتسارعة على تهافت وسقوط المقولات والاعتبارات التي كانت تدّعي بأنّ تاريخ البشرية ليس إلاّ من صنع الشعوب ضدّ بعضها البعض.

لا بأس هنا من التصريح بالوجع الحقّ. فالحقيقة لا تُوجِع إلاّ لأنّها تحرّر: لا تحرّر الشعب الضحية وحسب من أسْر رواسب الماضي ومآسيه وعذاباته، بل إنّها تحرّر الجلاّد والمستبدّ كذلك. أجل إنّها تحرّره في حاضره من ماضي استبداده وظلمه. وتؤهّل الطرفين الضحية والمستبدّ في الآن معًا للانصراف في بناء إنساني. مستقبل، ومجتمع وتاريخ إنساني واحد في تنوّعه الوطني، وتعدّد خصوصياته وهوياته، بحيث لا تظلّ الحقيقة مسألة تقرّرها وتفرضها موازين القوى، سياسيةً كانت، أم اقتصادية، أم عسكرية مسلّحة.

عودًا على بدء: إنّها روحية الإنجازات التي تمكّن ديكران الكبير، ملك الملوك، من تجسيدها واقعًا أرمنيًّا حيًّا على مدى الأزمنة مدماكًا راسخًا أوّل للذاكرة الأرمنية والشخصية الأرمنية.

 

(*) كلمة تقديم كتاب “شعراؤنا صانعو مجد أرمينيا”، إعداد وترجة جولي مراد، (منشورات دار المراد)،  وكانت وقعته في مهرجان ثقافي في بافيون رويال- البيال برعاية رئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان ممثلا بالسفير فوق العادة لمهمات خاصة ليفون سركيسيان، وأحيته رباعية كوميداس العالمية، بمواكبة سفارة جمهورية أرمينيا في لبنان والجامعات: اللبنانية وهايكازيان وسيدة اللويزة والأنطونية والقديس يوسف.

اترك رد