الكاتب جورج جحا (رويترز)
يطرح الكاتب اليمني علي المقري في روايته الاخيرة “بخور عدني” مشكلات وأسئلة مؤرقة تتعلق بالانسان وبالاوطان وبالمصير عامة.
يرصد الكاتب التغير الكبير الذي طرأ على العالم وعلى منطقة عربية محددة هي عدن منذ الحرب العالمية الثانية (1939-1945) حتى الربع الثالث من القرن العشرين.
سؤال مهم يطرحه المقري عن الأوطان والأوطان البديلة ليتوصل إلى نتيجة تكاد تقول إن الساعي إلى وطن بديل، أو إلى بديل عن وطن سيصل إلى نتيجة مفجعة، هي أنه سيفقد الوطن الأصيل ولن يبقى له البديل الذي يفاجئه، بأن يهرب منه بزئبقية غريبة، وبما يشبه ثورة هي أقرب إلى حريق يلتهب بسرعة لينطفىء بعد ذلك، تاركا وراءه ركاماً وذكريات مرة توّهم الإنسان في يوم مضى، أنها وطن الأحلام أو بديل من وطن الواقع. ولعلنا نستطيع القول هنا إنه حيث لا وطن واقعياً لا وطن للأحلام، أو أن الأمر صعب إلى حد الاستحالة.
ويمكن، انطلاقاً من أحداث الرواية المنسوجة بجمال وتشويق القول إنك اذا استبدلت بشخصيتك شخصية أخرى، فستكتشف، في نهاية الأمر، أنك لست هذا الجديد ولم تعد ذلك السابق. إنها لخيبة قد تكون أشد من الموت.
جاءت الرواية في 355 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار الساقي في بيروت.
علي المقري يكتب هنا بأسلوب يثير شهية القارىء إلى المزيد، وينقل هذا القارىء من حال إلى حال، ويرسم أمامه شخصيات مختلفة متعددة.
المكان اذن هو عدن. يصورها الكاتب بصورة مركبة هي من ناحية “الأساس” عالم ذو تقاليد وأعراف، ومن ناحية أخرى أي الناحية المنظورة واليومية عالم “كوزموبوليتاني” تذوب فيه الجنسيات والعشائر والطوائف. إنه وطن الجميع لفترة طويلة خادعة نكتشف بعدها أنه لم يكن لأحد منهم.
تبدأ الرواية بنزول رجل فرنسي من سفينة في ميناء عدن. إنه رجل أعطى اسمه وشخصيته لشخص آخر واخذ شخصية هذا الشخص.
ميشيل يشكو من عرج يمنع قبوله للاشتراك في الحرب، وهو متحمس للاشتراك فيها، وفرانسوا السليم الجسم الذي يريد الابتعاد عنها والهرب منها. تبادلا الشخصيتين فاستعمل ميشيل حذاء يساعد على إخفاء عرجه واستعمل فرانسوا حذاء يجعله يعرج. وكما حدث لشوان تزو الصيني الذي لم يعد يعرف إن كان هو شوان تزو الصيني يحلم بأنه فراشة أم إنه فراشة تحلم بانها شوان تزو الصيني.. لم يعد الواصل إلى عدن يعرف من هو.. أهو ميشيل أم فرانسوا مع أنه يعرج أو يتظاهر بالعرج.
وعندما سئل عن اسمه قال إنه يدعى “أي شيء”. ولأننا عندما نتغير يتغير العالم معنا، فإن هذا الغريب كتب رسالة إلى التي يحبها في فرنسا. لكنه تغير الآن، فبأي اسم ستعرفه. يقول لها: “لا استطيع أن أوجه ما أكتبه إلى أحد ممن اعرفهم. فالشخص الذي تعرفينه لم اعد أنا هو، وأنت لست أنت او لم تعودي كذلك، أو أنني لا أقدر أن أبقيك كما كنت عليه باسمك وعنوانك، وما يمكن أن يدل عبرك اليّ. فاذا صرت غير الذي كنته فقد صار كل الذين ارتبطوا بي غيرهم.”.
يذكر هذا بفيلم سينمائي أميركي عن رجل تمنى لو انه لم يوجد، فحقق الله امنيته وازال شخصيته الماضية ثم ارسله برفقة احد الملائكة الى العالم الذي كان فيه ليجد ان كل شيء مختلف. من كانت زوجته لا تعرفه الآن وقداصبحت زوجة شخص آخر، واولاده لا يعرفونه ومن كانوا أصدقاءه لا يعرفونه كما لا يعرفه صاحب المتجر المجاور الذي كان صديقاً له. غياب فرد واحد يغير العالم الى حد ما.
حل الفرنسي في عدن. تولت امره فتاة هي “ماما” التي أصبحت بالنسبة اليه راعية وصديقة ومحبوبة. عرفته إلى المجتمع الصغير، ومن أفراده اجانب غربيون من ايطاليين وبريطانيين، وفيه يمنيون ويهود وصوماليون وغيرهم. وبين هؤلاء شمعة، المغنية اليهودية الشهيرة، وشمعون اليهودي العدني صاحب الدكان الشهير وآخرون. ومن هؤلاء موسيقي ومغن متعاطف مع الألمان لقب باسم “هاي هتلر”، والمرجح أن المقصود هو التحية النازية لهتلر أي “هايل هتلر”.
كانوا جميعاً يعيشون حياة سعيدة، ويصفون أنفسهم بانهم عدنيون وقد تخلوا عن جنسياتهم القديمة واختاروا عدن وطنا بديلا من اوطانهم. كان الجميع متعايشون في وئام ولا يريدون حياة غير هذه.
بعد سنوات أخذ العالم بالتغير ووصل التغيير إلى عدن. الحرب على الاحتلال البريطاني.. الصراع العربي الاسرائيلي وانقسام البلاد إلى احزاب سياسية متعاركة في ما هو اقرب إلى حرب. هوجم الغرباء وجرى ترحيل اليهود العدنيين إلى إسرائيل، كما يقول الكاتب، وتعرض بعضهم وبعض الأجانب للقتل أو الاضطهاد ومصادرة الاملاك. الفرنسي الذي صار يتقن العربية انتهى حلمه بموت صديقته ماما في حريق اشتعل في مكان وجودها. طار الوطن الحلم.
يختم الكاتب روايته بالقول: “لا اعرف هل أبقى أم أمضي. فما لي اذهب بدون عدن وما لي أبقى بدون ماما. ساتبع قولها إن “عدن ليست سجنا له جدران وباب واحد. عدن بحر.. بوابة من البحر الى البحر لا يمكن لاحد ان يغلقها.
“لكنني لم أعد أعرف من أكون أنا فيها.. من تكون أنت؟ هل ستعترف في الأخير بما لم تعترف به من قبل؟ من قال لك إن الوطن كذبة كبيرة. هل كنت تحلم؟ هل صدقت أن الوطن وهم وعبرت كل هذه المسافة لتبحث عن بديل عنه؟
“أو قل أنك لم تكن هو، أو لم تكن أنت. أليس اللاوطن هو وهم أيضا؟ ستتباهى بالقول إنك عشت الأخرى عدن، وهذا يكفي وأنك كنت في زمن ما عدنيا. ستبقى تحاول أن تتذكر كل ما في وسعك أن تذكره كعزاء أخير لحياتك وتنام”.