الفلسطينيون وتحديات ما بعد الحرب

الباحث خالد غزال

بعد حرب استمرت خمسين يوماً، وهي من أطول الحروب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، أمكن الوصول إلى وقف لإطلاق النار، كان يمكنه أن يتحقق قبل هذه المدة لو لم khaled-ghazalتحصل مماطلة في قبول المبادرة المصرية التي شكلت، في النهاية، الأساس الذي قام عليها الاتفاق. ولأن هذه الحرب بدت مختلفة عن حروب سابقة في همجيتها الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والإمعان في قتله وتدمير بناه التحتية واقتلاعه من أرضه، فإن من الواجب التوقف أمام دلالاتها، في اندلاعها ومسارها ونتائجها وتوقعاتها المستقبلية، خصوصاً من الجانب الفلسطيني، ما يستوجب وقفة نقدية ضرورية.

ليس من شك في أن إسرائيل خططت لهذه الحرب، مستفيدة من الفوضى الكيانية العربية، وإمعاناً في منع المصالحة وصولاً إلى وضع الفلسطينيين في حرب أهلية داخلية. في المقابل لم تكن «حماس»، ومعها محور إقليمي بعيدة من تفجير الحرب، لأهداف يتلاقى بعضها مع إسرائيل، خصوصاً فــي الانتهاء من «العبء» الفلسطيني الذي ترى بعض الدول العربية فيه موروثاً لم تعد تحتمله، ولدى قوى إقليمية أخرى، مناسبة للهيمنة على القضية وإلحاقها بمنظومة طائفية ومذهبية.

على رغم التباين الفلسطيني بين قيادة منظمة التحرير والإسلام السياسي المسيطر في غزة حول أساليب الصراع ووسائله ضد إسرائيل، ومدى حصول تصرفات غير مسؤولة أحياناً من جانب حركة «حماس»، فإن القيادة الفلسطينية تصرفت بمسؤولية وطنية، إذ تجاوزت أي محاسبة ونقد لـ «حماس»، فاعتبرت الحرب حرب جميع الفلسطينيين، وتولت قيادتها في الديبلومسية والسياسة إلى جانب العمل العسكري. لعل هذه الوحدة الفلسطينية كانت صفعة كبرى لإسرائيل وللمحور الإقليمي والعربي على السواء. وشكلت الردود العسكرية التي طاولت الداخل الإسرائيلي نقطة مهمة جداً، أثبتت لإسرائيل أن منطق الكفاح المسلح ما زال قائماً، ويمكنه أن يطاول إسرائيل وشعبها بأضرار فادحة. وعلى رغم عدم التناسب بين خسائر الشعب الفلسطيني في البشر والحجر مع الخسائر الإسرائيلية، ما أصاب إسرائيل ليس قليلاً بمنطق الحروب التي خاضتها مع العرب، وبطبيعة الآثار السياسية والنفسية على الداخل الإسرائيلي.gaza

بعد أن هدأ القتال، لفترة غير معروفة، من المهم تسجيل بعض الملاحظات في ما يخص الجانب الفلسطيني. أول الملاحظات تتصل بما شهدناه من همروجة انتصار نظمتها «حماس»، وهي تذكر بهمروجة «حزب الله» ونصره الإلهي في حرب تموز (يوليو) 2006. كان معيباً ومخجلاً ذلك الحديث عن النصر الفسطيني وسط هذا الكم من القتلى والجرحى والدمار، فيما الاحتفال بالصمود وإلحاق الأذى بإسرائيل هو الواقع والفعلي والواجب التشديد عليه. إما حركة «الجهاد الإسلامي»، فباعت «نصرها» لإيران و «حزب الله». على غرار ما جرى في لبنان، يخفي احتفال النصر هروباً من المسؤولية ومن السؤال المشروع: لماذا جرى كل ذلك، ولماذا أطيلت الحرب من خــلال رفض «حماس» المبادرة المصرية؟ وهل كانت هذه الحرب حتمية؟ كما أن هذا النفخ في احتفالية النصر يضمر نية لدى حركة «حماس» بالانقلاب علــى الاتفاق الخاص بحكومة الوحدة الوطنية، والسعي إلى فرض شروط جديدة تمس الوحدة الفلسطينية.

يشكل وقف إطلاق النار المحطة التي تمهد لعودة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي مفـاوضات ستكون شاقة، تسعى من خلالها إسرائيل إلى تحقيق أهدافها في السياسة عما عجزت عنه في الحرب. لعل التحدي الأكبر أمام القيادة الفلسطينية هو المحافظة على وحدة الفصائل التي تعمدت بالنار خلال الحرب، وتثمير الصمود الاستثنائي بمكاسب سياسية للشعب الفلسطيني. سيكون الفلسطينيون أمام تجاذب دولي إقليمي، يسعى كل طرف لأخذ حصته على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته. من المشروع طرح سؤال عن مدى حصانة «حماس» و «الجهاد الاسلامي» في التمسك بالوحدة الفلسطينية وعدم الانجرار إلى حلم إسرائيلي – إقليمي بجعل غزة إمارة إسلامية، وفصلها نهائياً عن الضفة الغربية، بما يحقق هدفاً يضرب القضية الفلسطينية في الصميم. وهذا الطموح نحو الإمارة يدغدغ أحلام الإسلام السياسي منذ الانقلاب على الوحدة الفلسطينية عام 2007.

سيكون قرار الحرب والتصرف به واحداً من التحديات الكبرى فلسطينياً. هل ستتصرف «حماس» كل فترة بما يجعل الحرب حتمية، بصرف النظر عما يتحمله الشعب الفلسطيني في غزة؟ وهل ستظل «حماس» تقيس خسائرها بعدد مقاتليها الذين سقطوا في الحرب، من دون الأخذ في الاعتبار خسائر الشعب بالجملة؟ إن بعض تصريحات قادة «حماس» بعد وقف إطلاق النار، لا يدعو إلى الاطمئنان في هذا المجال. لعل هول الدمار غير المسبوق في غزة، والحديث عن أن إعمار ما دمر يتطلب عشرين عاماً، يمكن أن يشكل رادعاً لمنع أخذ الشعب الفلسطيني إلى الجلجلة كلما شاءت قوى إقليمية استخدام القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وسيلة لأهدافها ومشاريعها.

لم يتـــعود الـــعرب الـمـساءلة والمحاسبة عن هزائمهم ومسلكهم، هم مهــجـــوسون دائماً بتحويل هزائمهم إلى انتصارات، فهل تشكل حرب غزة استثـــــناء فلسطينياً في هذا المجال؟ ينبع الســـؤال من كون القضية الفلسطينية ستظـــــل النقطة المضيئة في عالم عربي تكتسحه الموجات الظلامية، وتظل أملاً في مواجهة مشـــاريع الهيمنة الصهيونية المتلاقية موضوعياً مع العقل الظلامي، الطائفي والمذهبي، المنفجر في عالمنا العربي.

اترك رد