فيليب سالم يحاضر في “مركز عبدالله غانم الثقافي” في بسكنتا: حياد فاعل ومظلة أمنية دولية تحمي لبنان

ghanemحاضر الدكتور فيليب سالم عن “لبنان الهواجس، لبنان الآمال” بدعوة من “مركز عبدالله غانم الثقافي” في بسكنتا.

بداية، كلمة لرئيس المركز، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، الدكتور غالب غانم، أشار فيها الى “مخاطر حقيقية” تهدد لبنان. واعتبر أن فيليب سالم هو “حكيم الأمل” في الطب كما في السياسة، وأنه قادر على إسماع صوت لبنان في المنتديات الدولية خاصة في هذه الظروف الدقيقة من تاريخ الوطن الصغير.

المحامي رفيق غانم قدّم سالم بكلمة رأى فيها أن المأساة تجتاح المنطقة من المحيط الى الخليج. في العراق وسوريا وفلسطين نهر من الدم والدمع، وفي الموصل نهر من القتامة التاريخية، ومهجّرون في قلب الأمة المترامية الأطراف، ومهاجرون، وهتاف مدوٍّ في الضمائر هو رَجْعُ صدى نداء المتألمين الموجوعين القلقين.
أضاف: هواجسنا، الفراغ، القلق على المصير، الخوف من ذواتنا، أن يقتلنا تعدّدنا لا أن يبعث فينا الحياة كي نكون فعلاً وطن الرسالة.

وتوجه الى فيليب سالم قائلاً: تحمل لبنان في عينيك وفي ضميرك وفي أحلامك وتبدع علمًا وفكرًا إنسانيًا شاملاً وأصالة لبنانية. أيها البطرامي الكوراني اللبناني العالمي الأبعاد والنظرة والرؤى والأحلام. أيها الحامل مشعلاً من مشاعل المعرفة تزرعها في زوايا الأرض الأربع باسم لبنان الذي يعصف في عروقك ويختلج في كيانك…

سالم

الدكتور سالم أكّد في محاضرته على “الأمل” في إيجاد الحلول لـ”القضية اللبنانية”، قضية الحرية والديموقراطية في هذا الشرق، وقضية الإنصهار المسيحي – الإسلامي والانصهار الديني والحضاري حيث تتنوّع المذاهب والديانات على أرض صغيرة في الشرق اسمها لبنان.

أضاف سالم: “دائمًا الناس يكتبون ويتحدثون عن قضية “التعايش”، أي أن الناس يعيشون بعضهم مع بعض رغمًا عنهم. أنا أؤمن بالانصهار المسيحي – الإسلامي، أؤمن بانصهار الديانات، أي الارتفاع بالانسان الى فوق ليعلو عن كل أمر خلافي، ويصهر جميع الأديان والمذاهب في بوتقة الايمان بالله وبالوطن”.philippe-salem-1

لكن المشكلة تكمن، برأي سالم، في “الجغرافيا” المحيطة بلبنان، والتي لا تؤمن أنظمتها بهذا “النموذج” إذ تعتبره معاديًا لنمطها ومنطقها ومخططاتها السياسية. في جنوب لبنان توجد اسرائيل وهي نموذج معاكس للنموذج اللبناني. واسرائيل تخشى أن ياتي يوم يقول فيه لها العالم: لماذا لا يمكن أن يتعايش اليهود والفلسطينيون معًا؟ لماذا لا يعيش اليهودي والمسلم والمسيحي معًا كما عاشوا في لبنان؟ هذا النموذج تخافه اسرائيل، ونموذج الحرية والديموقراطية يخافه العرب.

أضاف سالم: “لنرى الصورة الكاملة لآفاق الحلّ، يجب أن نرى جيدًا المشهد الدولي والمشهد الإقليمي والمشهد الداخلي في لبنان، وبالتالي كيفية الخروج من هذه الأزمة”.

المشهد الدولي

تحدث سالم عن المشهد الدولي، حيث الخلاف بين روسيا والغرب حول أوكرانيا وحول سورية، إضافة الى المفاوضات الجارية بين الغرب وايران حول البرنامج النووي الإيراني. و”المشكلة الحقيقية أن الغرب لا يتحمّل أن تكون لايران قوة نووية ما يجعلها تتحكم الى حدّ كبير بمصير الاقتصاد العالمي، عندما تصبح قادرة على تقرير مصير منابع النفط في الشرق. لذا أتوقع أن تصل المفاوضات بين ايران وأميركا والغرب الى اتفاق”.

وفي رأي سالم، إن توصّل الغرب وايران الى اتفاق سيؤدي الى معادلة جديدة في المنطقة كما في لبنان تلعب فيها إيران دورًا جديدًا وكذلك حزب الله، وسيكون للقوى السياسية والعسكرية المتحالفة مع إيران أدوارًا جديدة، وبالتالي ستكون هذه هي الفرصة الملائمة للبنان، لبناء معادلة جديدة مع المقاومة ومع حزب الله.

ورأى سالم أن المواجهة العسكرية مع المقاومة وحزب الله لا تخدم لبنان. فللمقاومة إيجابيات وسلبيات، والحل مع حزب الله يأتي بعد الاتفاق الأميركي والغربي مع ايران. انها فرصة يجب أن لا يضيّعها اللبنانيون، لأنه سيأتي يوم أيضًا يحصل فيه تفاوض بين أميركا وروسيا والصين حول سورية يؤدي الى حلٍ ديبلوماسي، وليس الى حلٍ عسكري، من شأنه أن يعطي لبنان فرصة جديدة للتعامل مع سورية جديدة.

وطالب سالم بمعادلة ذكية بين “الدولة والدويلة”، ليصبح “قرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية. قد يكون ذلك صعبًا في المرحلة الراهنة، إلا أن ذلك لن يكون صعبًا بعد الوصول الى اتفاق بين أميركا وايران بالنسبة الى برنامجها النووي. لذلك لستُ يائسًا لأنه سيأتي يوم، وهو قريب، يعود فيه “حزب الله” من سوريا الى لبنان. المطلوب اليوم إدارة هذه المعادلة بمحبة وسلام وبدون صراع عسكري أو تهديد بالعنف من أي جانب كان. قرار الحرب والسلم يجب أن يكون بيد الدولة”.

تابع: “هناك عامل آخر يجب أن لا ننساه هو العامل الاسرائيلي والاستراتيجية الصهيونية. يؤسفني القول أن السياسة الخارجية الأميركية هي رهينة الاستراتيجية الصهيونية في الشرق، لذلك إذا أردتَ أن تفهم السياسة الخارجية في الشرق يجب أن تفهم الاستراتيجية الصهيونية العالمية، هذه الاستراتيجية تريد تفتيت الشرق الى دويلات طائفية وإثنية لتبرير وجود اسرائيل دولة إثنية في هذا الشرق. هذه الاستراتيجية تؤمن وتعمل على إفراغ الشرق من مسيحييه. لماذا؟ لأن اسرائيل تخاف من القوى المشرقية المسيحية التي تعمل في الولايات المتحدة الأميركية، وهي تعرف أن المسيحيين في الشرق هم من بنوا الحضارة وهم من بنوا النهضة العربية، وهم من أسسوا فكرة القومية العربية.

الصهيونية العالمية لا تريد قيام قوميات في هذه المنطقة، بل تريد دولاً ضعيفة مفتتة لا يمكنها محاربة اسرائيل عسكريًا أو حضاريًا. هذا الهدف يخدم الغرب أيضًا الذي لا يناسبه قيام دولٍ كبيرة وقوية في هذا الشرق تسيطر على منابع النفط. إن النفط ثروة لنا، إلاّ أننا بجهلنا قد حوّلنا هذه الثروة الى قوة ضدّنا”.

قال: >يؤسفني أن أقول أن الغرب الذي يؤمن بالحرية والديموقراطية لم يساند ولم يدعم في تاريخنا الحديث لبنان العظيم الذي هو واحة الحرية والديموقراطية، وهذا يعود الى فشلنا نحن كدولة، لعدم وجود ديبلوماسية صاحبة رؤية بعيدة تسعى الى تغيير توجهات السياسة الأميركية والسياسات الغربية في الشرق الأوسط. الاستراتيجية الاسرائيلية ومعها استراتيجيات واشنطن والغرب تبدو خطيرة جدًا على مصير الشرق. لكن ليس بالضرورة أن تصل جميع هذه المخططات الاستراتيجية الى الأهداف التي تريدها وتعمل من أجلها، خاصة إذا صمّمنا وتكاتفنا وعملنا على بناء لبنان جديد، برؤية جديدة، وعملنا على تفعيل الديبلوماسية اللبنانية”.

المشهد الإقليمي

في المشهد الإقليمي رأى الدكتور سالم، أن “الربيع العربي” انتهى بسرعة فائقة. ويقول: كتبت مقالاً مع بداية الثورات العربية عنوانه “لكي لا تُغتال الثورة” وها قد اغتيلت الثورة، وسوريا اليوم هي مقبرتها. ولم يعد الخيار بين المستبد والحاكم العادل، أو بين التيوقراطية والدولة المدنية. إذ جعلونا أمام خيار جديد هو التطرف الديني، فأصبحنا أمام خيارين: الاستبداد، أو التطرف الديني. وأنا أقول علينا أن نرفض الخيارين معًا، لان هناك خيارًا آخر يجب أن نعمل من أجله، وهو خيار بناء الدولة المدنية حيث يكون جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. نحن لا نقبل الخيار بين التطرف الديني والاستبداد السياسي. نحن نرفض المستبدّ كما نرفض المتطرف دينيًا رفضًا قاطعًا.

إن المستبد يقتل إنسانًا واحدًا أو أكثر وأحيانًا المئات، إلا أن المتطرف دينيًا يقتل الفكر ويقتل كل إنسان. نحن نقف دون شك بقوة، ضد “داعش” و”النصرة” وكل الإفرازات التكفيرية والمذهبية البغيضة. وكم طالبنا بالفصل بين الدين والدولة، لان هذا الدمج القائم حاليًا هو معضلة الشرق. وإن لم نتمكن من فصل الدين عن الدولة، لن نتمكن من بناء حضارة تكون جزءًا من حضارة العالم”.

السنّة والشيعة

في المشهد العربي، هناك اليوم بدعة العنف والاقتتال بين السنّة والشيعة. وهو سلاح جديد يُستخدم الآن لتفتيت هذا الشرق. من هنا نرى “الدولة الإسلامية” في العراق وربما دولة للأكراد، وغدًا دولة للسنّة وأخرى للشيعة ودولاً مذهبية أخرى. سنرفض أن يكون هناك دولة مسيحية لأنها ستكون ضد المسيحية وضد الدين.

أعظم ما يمكن أن نعمل عليه هو فصل الدين عن الدولة، لأن هذا التطرف الديني الذي نراه هو مرض عضال ويجب أن نعمل بكل قوانا لمحاربته. أنا على ثقة بأن هذا التطرف الديني لن يدوم طويلاً. الشعب المصري رفض خيار “الأخوان المسلمين”، والعرب سيرفضون “داعش” و”النصرة” وسائر الفصائل التكفيرية التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية باسم الإسلام، الذي هو براء من هذه البدع والفصائل المعادية، للفكر الديني السليم. وآمل أن لا تصل النيران المشتعلة في سوريا والعراق الى لبنان البلد الذي يمثّل نموذجًا نقيضًا لما يجري في الشرق.

وهناك أيضًا انهيار المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية، جراء فشل السياسة الأميركية في إيصال هذه المفاوضات الى اتفاقات نهائية. وأكرر ما قلته مرارًا، بأنه للوصول الى مثل هذه الاتفاقات يجب أن يكون “العرّاب” هو المجتمع الدولي وليس الولايات المتحدة فقط. كما يجب أن يُفرض هذا السلام على اسرائيل والفلسطينيين لأن اسرائيل لا تريد هذا السلام.

الاصطفاف السياسي في لبنان أوصل البلاد الى مأزق صعب، والمطلوب الخروج من هذا المأزق وهذا الاصطفاف، وبالتالي، بناء قوة ليست “وسطية” بقدر ما هي قوة لبنانية تعمل على بناء صيغة جديدة للبنان. من هنا يجب على المجتمع المدني أن يقوم بثورة حضارية سلمية تحمل الوردة بدل أن تحمل البندقية. ثورة يكون فيها الفكر هو السلاح”.

أضاف: “المجتمع المدني في لبنان هو المجتمع المدني الوحيد في هذا الشرق الذي يمكنه أن يثور بهذه الطريقة الحضارية. هدف هذه الثورة هو تغيير الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان منذ الاستقلال الى اليوم. فهذه الطبقة أوصلت لبنان الى هذا المنحدر الرهيب في السياسة والحضارة. ولا يمكن لهذه المدرسة التي أوصلت لبنان الى هذا الدرك أن تكون المدرسة التي ستعيده الى الحياة!

أنا لست ضد شخص أو سياسي أو فئة سياسية معيّنة. لي أصدقاء في هذه الطبقة السياسية إلا أن صديقي الأول والأخير هو لبنان. انا ضدّ هذه المدرسة التي تؤمن بأن الدولة هي بقرة حلوب، نأخذ حليبها لنا اولاً، ولأصدقائنا ولأبناء عمومتنا، وإذا بقي شيء نوزّعه كما نشاء. هذه الطبقة تدّعي أنها تريد قيام الدولة لكنها تعمل في الواقع على تعطيل قيامها لان قيام الدولة يعني تلقائيًا إلغاء هذه الطبقة السياسية البائسة”.

حياد فاعل واشراف دولي

اعتبر أن “البداية في لبنان حاليًا يجب أن تكون بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلا أن ذلك بحدّ ذاته، لا يحلً المشكلة. كان عندنا رؤساء من قبل ولم تحلّ المشاكل الكثيرة العالقة في لبنان منذ عقود. إننا بحاجة الى رئيس جديد يكون ولاؤه للأرض وللبنان مقدّسًا. نريد رئيسًا خارج الاصطفاف السياسي التقليدي القائم اليوم بين 14 آذار و8 آذار. نريد رئيسًا يمكنه إدارة المعادلة القائمة بين الدولة والمقاومة بحكمة وجرأة. نحن لا نحتاج رئيسًا قويًا بقدر ما نحتاج رئيسًا قائدًا. كان هتلر رئيسًا قويًا إلاّ أنه قاد بلاده الى الدمار والموت. نحن نريد رئيسًا يتصف بالحكمة والرؤية والجرأة. نريد رئيسًا يسهر على اللبنانيين جميعًا ولا يفرّق بينهم. نريد رئيسًا يجرؤ على قوى الحقيقة. ولبنان على المدى البعيد، لن يقوم إن لم يلتزم “الحياد الفاعل”، الحياد الذي يعمل باتجاه هدف واحد هو مصلحة لبنان.

ليس “الحياد الفاعل” هو الخوف من المواجهة السياسية ودفن الرؤوس في الرمال، وتحييد لبنان عما يجري حوله من أحداث. الحياد الفاعل يعني لبنان القوي الذي يعمل بديبلوماسية في الداخل وفي المحيط الإقليمي كما في عواصم العالم الفاعلة لحماية الوطن والمواطن أولاً ولقيام لبنان جديد. علينا أن نحافظ على هذا النموذج العظيم من الحرية والديموقراطية والانصهار بين الديانات والحضارات، بل أنه لا يمكننا أن نصل الى الاستقرار إلا إذا تمكّنا من وضع أمن لبنان تحت إشراف دولي”.

ماذا يعني ذلك؟
قال سالم: “لبنان بلد صغير يحمل حضارة عريقة وعظيمة. قوته العسكرية لم تكبر كفاية لتكون قادرة على حمايته من المخاطر. لبنان اليوم كما كان منذ أربعين عامًا يحتاج الى مظلّة أمنية دولية، وكل من يقول عكس ذلك يمدّد آلام اللبنانيين. لبنان يحتاج الى قادة شجعان يطالبون بوضع لبنان تحت اشراف دولي لانه نموذج لحضارة عريقة ضاربة في عمق التاريخ. هذا النموذج الفريد في الشرق يجب على العالم أن يحافظ عليه. لذا، نناشد الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والعالمية العمل لوضع لبنان تحت مظلة أمنية دولية بإشراف الأمم المتحدة. وإن لم نتمكن من الوصول الى هذه الغاية سنكمل طريق الجلجلة وسنتخبط أكثر فأكثر في أوضاعنا”.

وأنهى سالم قائلاً: “للوصول الى ذلك نريد قيادات سياسية تجرؤ على المطالبة بهذه الصيغة الجديدة. لبنان بلد سيّد، حرّ، مستقل، يقف على “الحياد الفاعل” في الشرق وفي العالم، وتحت مظلة أمنيّة دولية باشراف الأمم المتحدة. واحد من عظمائنا (شارل مالك) شارك في كتابة شرعة حقوق الإنسان. إن لبنان، وطن يستحق أن تقوم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بعملٍ جدّي لانقاذه من مصير قد يكون قاتمًا. إنقاذ لبنان يكون فقط عندما نضعه تحت مظلة أمنية دولية”.

*******

بالاشتراك مع aleph-lam

www.georgetraboulsi.wordpress.com

اترك رد