د. جورج شبلي
هنالك، دومًا، جمهوران من القرّاء، جمهور تروقه الصّنعة الظّاهرة الّتي يُتقنها الكتّاب الّذين يُحسنون التّلوين والتّزيين، ومَثَلهم مَثَل الباعة الّذين يعرضون طرائف الثّياب المخطّطة الخلاّبة الّتي لا تكلّف صانعيها جهدًا كبيرًا، والّتي تبهر العامّة وتفتنهم، فتبدو لهم غايةً في الإجادة والإبداع. وجمهور يفهم دقائق الفنون الأدبيّة، ويميّز بين الصّنعة السّطحيّة، وبين ما يأتيه الكاتب المتفوّق من وضع ألفاظه على قدود المعاني وضعًا رشيقًا يفتن العقل والذّوق. ومَثَله مَثَل الصّيدليّ الّذي يُحسن تركيب الدّواء بمقادير محدّدة، لو زيد عليها أو نقص منها أيّ جزء، لأصبح الدواء ضارًّا.
عندما خالط إيلي مارون خليل الأدباء المُتوافِدين على مُحافظة عقله، بدأ عصر شقائه، إذ احتبس نفسه، وبإرادته وكامل وَعيه، في مَصنع الإبداع الّذي لا يَفتَرِق عن جيب البخيل، لكنّ الدّاخل إليه مَفقود طَوعًا، حتّى إشعار آخر، وإذا خرج فإنّه يُغني الدّنيا. أمّا الشّقاء ففي مُنازلةٍ مُطَّرِدَة مع الجَمال والقيمة، فُرسانُها يُنفِقون راحَتهم ولا اعتراض، وهو منهم. وقد أوقعته تربيته في صراع حادّ بين ميله إلى الأدب، وبين تحفيزٍ صوب الفلسفة واللّاهوت، غير أنّ الموهبة الأدبيّة في جِبِلّته، تفوّقت فحقّقت كسبًا للتّراث الأدبيّ، ولكن مُطَعَّمًا بخُلقيّة اللّاهوت وأريج الحكمة .
الأصيل مع إيلي يحيا ويَغتَذي، في شِعره ورواياته والأقاصيص، وهو الضَّنين بالأصول وإن تراكمت مواعيده مع الحداثة. وهي أصولٌ لم يعمل على إثقالها بإضافات المُعاصَرَة المُشَوِّهة، فقد قاد تَحريمَ التَّأفّف من الثّوابت من دون أن يمنع الأخذ بيد الجيل إلى الرَّكب الحضاريّ، هذا الجيل الّذي غالبًا ما حيل بينه وبين تراثه بالتّضليل . فكتابات إيلي ليست انقلاباً على الزّمن، ولا على تلك النّقلة النّوعيّة في ملامح الحياة الّتي اقتحمت التَّغيُّرات، بل هي رفضٌ لِمَوت الماضي الّذي أقام إيلي عليه الدّعوى بالتّخاذل أمام الزّمن المستجدّ، ورفضٌ للعشوائيّة في الحداثة الّتي تَحوّل بعضها إلى أنقاض إنتاجيّة، كلفتُها على الإبداع باهظة.
في رواياته، هو صاحب سَوابِق في تركيبٍ للإحساس بوجود مشكلة ليبرع في إيجاد حلّ يستجيب لها. هذه القدرة الخلاّقة ليست مُكتَسَبَة عنده ولا يمكن التَّدَرُّب عليها، فهي قد لامَسَت نفسه، عندها أَقدَم لأنّه أُعطِي بها أن يصنع ما يريد . إنّ إبداعاته هي تحقّقٌ إرتقائيّ لا تكراريّ، فلا حاجة لإعادة ما يعرفه النّاس، لأنّ موضوعاته رموز منبِّهة وذات دافعيّة تضعه في مصافّ الأفراد المرتفعين في الإنجاز القصصيّ. وإذا تلمّسنا الصّواب في مروج أقاصيصه، لوقعنا على متنزّهاتٍ ” تنسلّ ” بين العيون والعقول، تنقلنا إلى متعة تشعل فينا قلق المشتاق إلى الأكثر. كيف لا، ورواياته في سرائرها سراجٌ للحلاوة، حتّى في مواقفها الحائرة أو الجريئة، ولكن من دون أن تترك الواحد منّا أمامها أصفر الوجه. وقد بهرت أفانينه في القصّة والرّواية معاصريه، لأنّه قسّم نهجها على رُتَب مراميها، فأفصحت عن طريقة روائيّة مغايرة، تشبك يدها بأصابع الرّواية الغربيّة، فلا يُعرَف فيها مَن السّابِق ومَن المَسبوق، وتُطمئِنّ إلى مَقلب إفتتاحيّ يضمن أن يُحفَظ لإيلي مارون خليل في الفنّ الرّوائيّ تاريخ.
أمّا في الشِّعر، فظهوره كان ظهورَ الجارية مع عودها، هذه الّتي تَرفع لها الأَسماع حُجُبها. إنّ قصائده مَعارِض، إستسقاها الإبداع نفسُه، فتهادت في لوحاتها الرّشيقة وأحضرت إليه دِنانًا مملوءةً بأسرار الجَمال، فوقع بينه وبينها مُلاحاة، حتّى إذا صرفه طبل الرّحيل، إنصرف وفي قلبه حسرة كامنة لأنّه لم يُتَح له استكمال طمعه بالإستزادة. لقد أسّس إيلي مارون خليل شِعره على الصّورة، في نمطَي الحديث والتّقليد، فلم يعد “مزمورًا حزيناً” تستطيع أن تقهره السّنون، فالصّورة لمّا تزل في شِعره شبابًا واغتباطًا، لأنّها معه دائماً في شهوة. والصّورة هي شَبَع الشِّعر، غيابها حَطٌّ من أخلاقه، فلا أنيس به من دونها، ولا ثمالة بطربه بلا أجاجينها، ولا حماية لصَباحات الإمتاع منه بغير فيضها. وقد ترصّد لها إيلي، بإسراف ومن دون احتياط، فجاءت قصائده الأَحفلَ بعنايتها، مغمورةً بالطّبعيّة من دون اختلاق، فالطّهر المحض لا يُتَعمّد، خصوصًا وأنّ بين البِرّ والفجور شَعرة معاوية.
لقد أطال إيلي خليل إقامته في حواضر الجمال، فصقلته وألهمته الفصل بين الرّديء والجيّد، فكان لها فضلٌ في عذوبة شِعره، ورقّة ديباجاته، وسلامة أدبه من الوعورة. ومعلومٌ أنّ سلاسة الّلفظ تتبع سلاسة الطّبع، وأنّ دماثة الكلام بقدر دماثة الخُلُق، فما أقوى سلطان الجسم والرّوح في حياة العقول. لكنّ شاعريّة البَيان في نتاجاته، والصّادرةَ عن ألوان نفسه، لم يتعذّر عليها معاشرة طبقات الحكمة، فجاء تقويم صحيفته ” على حافة الكلام” تجاوزًا هزّ كيان القارئ أكثر ممّا فعله غيره ممّن سبقوه. والعِبرة في الذّوق، فربّ خطّ وحيد بسيط يصدر عن قرويّ وَدود، بمقدوره أن يصوّر محاسن الدّنيا بأفضل ممّا تأتيه أيدي الصُّنّاع من تزيينات مُتَكلَّفة، وحسبُ إيلي مارون خليل أنّه من ” وطى الجوز”..