الباحث حنّا عبّود
بعد ثلاثة أرباع القرن من ظهور كتاب المازني “الشعر: غاياته ووسائطه” في العام 1915، أعادت “دار الفكر” في لبنان طباعته، حتّى أنّها كلّفت باحثاً هو الدكتور فايز ترحيني القيام بتحقيق النصّ والتعليق عليه مع مقدّمة شاملة لحياة المازني وأدبه. وهذه خطوة تقدَّر للدار بقدر ما يقدَّر الجهد الذي بذله المحقّق في مقدّمته وفي تحقيقاته العديدة…لكن، هذا الجهد لم يحل دون التساؤل عمّا إذا كانت التحقيقات القادمة في فضائنا العربي ستأتي بحسب المقاييس العالمية!؟
لا بدّ من أن نشكر الجهد الذي بذله المحقّق (الدكتور فايز ترحيني) في مقدّمته وفي تحقيقاته العديدة. وسوف ندع المقدّمة المستفيضة التي عرض فيها حياة المازني ودرس كلّ جوانب أدبه وفكره، لأن هناك مواقف ونظرات تختلف بين السيّد المحقّق والسادة الدارسين الآخرين اختلافاً كبيراً. ولكن لن ندع الجهد المبذول من دون شكر.
إن التعليقات والشروح لا تؤثّر في موقف المازني ولا تغيّر منه، بل يجب أن توضع لتكون في مصلحة القارئ بشرط أن تغنيه عن البحث في تواريخ الأحداث أو الشخصيات التي تمرّ في النصّ، أو المصطلحات التي لم تعد تُستخدم في العصر الحالي، بعد رحيل المازني بثلاثة أرباع القرن تقريباً. وهذا أسلوب لم يكثر منه الغربيون إلا في المخطوطات والآثار القديمة. أما الحديث منها، فيكتفون في حال التحقيق بالقليل جداً، مقتصرين على ما يمكن أن يشْكِل على القارئ، أو ما يمكن أن يثير جدلاً في النظرية الأدبية…
وصل جهد المحقّق إلى الأسماء المشهورة جداً، التي لا تحتاج إلى تعليق. فعندما يرد اسم “هومر” في نصّ المازني يضع له حاشية بالإنكليزية على النحو التالي:” Homer.The name traditionally given to the author of the Iliad and Odyssey”، ولا نعلم سبباً لعدم قوله بالعربية: الاسم الذي يُطلق عادة على مؤلّف الملحمتين اليونانيّتين الإلياذة والأوديسة. كما لا نرى ضرورة للتعليق أصلاً على اسم هومر، لأن قارئ المازني لا بدّ أن يكون مطّلعاً أكثر ممّا يفترضه المحقّق. فإن لم يكن مطّلعاً، فإن هذا التعليق لا يفيده في شيء.
وعندما يقول المازني” لصدق من قال إن الإنسان حيوان شعري وإن لم يلقن قواعد النظم وأصوله! فالطفل الذي يستمع إلى أساطير العجائز شاعر، والقروي الذي يرى قوس الغمام فيجعله قيد عيانه شاعر، والحضري الذي يخرج ليرى موكب الأمير شاعر، والبخيل الذي يقبض كفّه على الدرهم شاعر…إلخ” يعلّق المحقّق: ” لعلّ القائل هو وليم هازلت وهو من شعراء الإنكليز، وذلك في مقدّمة كتابه نقد شعراء الإنكليز”. ولا نعرف سبباً لكلمة “لعلّ” المريضة، فماذا استفاد القارئ منها؟ هل تأكّد له أن الناقد هو وليم هازلت؟ وما دامت الجملة في مقدّمة كتاب، أليس الأحرى أن يشير إليها مؤكّدا لا مخمّناً؟
صحيح أن العقاد صرّح أن الناقد المعتمد لدى مدرسة الديوان هو وليم هازلت، وأنهم يأخذون بكلّ آرائه ومواقفه ونظراته النقدية، ولكن هذا يجب أن يدفع المحقّق إلى التأكّد من أن مَن أغفل اسمه المازني هو هازلت تأكيداً لا تخميناً. والسبب أن قضية الشعر الساذج أو الشعر العفوي أو الشعر الرعوي أو الشعر الأركادي أو ما شئت من الأسماء التي تدلّ على السجيّة والسليقة، والبعد عن الافتعال والتعمّد والتصنيع، هي قضية ظلّت مطروحة حتى أواخر القرن التاسع عشر. في القرن العشرين لم تطرح إلا قليلاً، من دون أن تدور حولها مناظرات كالتي دارت بين شاعرين صديقين من شعراء البحيرة وهما كولردج ووردزورث. وهناك أكثر من ناقد ودارس وشاعر ومتأمّل يؤكّد أن الشعر والطفولة شيء واحد، فعلينا أن ننظر بعين الأطفال حتى نكون شعراء، أو علينا الاحتفاظ بالطفولة حتى نحوز لقب شاعر… وهكذا خاض لامرتين وهيغو وشاتوبريان وسواهم في هذه المسألة التي كثر الخوض فيها ممّا يستدعي التدقيق في نسبة القول إلى صاحبه.
وجاء في تعليق آخر: “ينسب المازني هذا القول إلى شللي، وهو من شعراء الإنكليز البارزين الذين تأثّر بهم المازني تأثّراً كبيراً، وذلك في دفاعه البديع عن الشعر”.
هنا أيضاً لا يستفيد القارئ من هذه الملاحظة. ومن واجب المحقّق ألا يتدخّل بل يكتفي بذكر اسم الشاعر كاملاً وإلى جانبه تاريخ ولادته وتاريخ رحيله. ولو تابعنا التعليقات والتحقيقات لرأينا المحقّق يبذل جهداً كبيراً، ولكنّه لا يتفق مع أسلوب التحقيق والتعليق والإيضاح والإبانة ومساعدة القارئ على هضم ما يمكن أن يكون عسيراً، بعد مرور كلّ هذه المدّة على صدور كتاب المازني.
ويبدو أنها عادة عند المحقّق ألّا يذكر سنة الولادة والوفاة، حتى يعرف القارئ العصر، لذلك في بعض الأحيان يذكر اسم المفكّر ورأيه من غير أن يحدّد العصر كقوله “رأى سبنسر وغيره من الفلاسفة المحدثين أن الرقيّ هو الانتقال من حالة البساطة إلى حالة التركيب والتعقيد. أنظر مقالة في الرقيّ لسبنسر”. الغريب أنه كتب تعريفاً كاملاً بالإنكليزية عن هومر واستكثر أن يكتب اسم المقالة بالإنكليزية، ليزيل اللبس عن كلمة الرقي التي لها عدّة مترادفات بالإنكليزية. ولو ذكر عنوان المقالة بالأجنبي لخدم القارئ بصورة أفضل من تعريفه هومر بالإنكليزية. ولكن لندع كلّ هذا ولنتوقّف عند ملاحظته عن شليجل.
شليجل وتعليق المحقّق
ورد اسم شليجل عند المازني مرّة واحدة، من دون أن يذكر حرف اسمه الأول: هل هو أوغست أم فريدريك؟ واقتصر على اسم العائلة المشتركة مع أخيه الذي كان يعمل معه، ومع عمّه الذي كان سبّاقاً إلى العمل في الحركة الرومانسية الألمانية. والجملة التي جاء فيها اسم شليجل عند المازني هي “ولا يغني في تعريفه [أي تعريف الشعر] كذلك أن نقول مع شلجل إنه مرآة الخواطر… إلخ”.
يقول المحقّق: ” شلجل: لم أستطع العثور على هذا الاسم في أيّة موسوعة من الموسوعات التي استطعت الوصول إليها، ولعلّه: شلينغ، فريدريش فلهم جوزف فون Schelling, Friedrich Wilhelm Joseph Von) فيلسوف ألماني (1775- 1854)”.
يقول المحقّق هذا الكلام في لبنان، حيث دار الفكر اللبناني. ومن الغريب ألّا يعثر على اسم شليجل في لبنان، البلد الذي أسهم في النهضة العربية أكثر ممّا أسهمت إيطاليا في النهضة الأوروبية. ففيه ظهرت أوائل دراسات النهضة وإحياء الحضارات القديمة؛ وصلته بالفكر الأوروبي، فلسفةً وعلماً وأدباً وتاريخاً، لم تنقطع، وهو حديثاً يشارك في الأدب العالمي… وتكفي الإشارة إلى المعلّم بطرس البستاني لنقول إنه أوّل من أطلق اسم “المدرسة الوطنية ” على مؤسّسة تعليميّة، وعلى يده أيضاً ظهرت “دائرة المعارف” أوّل موسوعة حديثة في العالم العربي، وقد رحل قبل إنجاز المجلّد السابع. وأوّل قاموس حديث بالمعنى الحضاري للكلمة، وهو قاموس “محيط المحيط” ظهر على يده في لبنان، وأوّل صحيفة يومية صدرت بالعربية- وهي الجنينة- ظهرت على يده في لبنان . ومن اسم المدرسة الوطنية ودائرة المعارف ومحيط المحيط وأوّل صحيفة عربية يومية حدّد لبنان طريق نجاح النهضة (الوطن والتراث والمعاصرة)، وإلا فإنها ستتعثّر… وقد تعثّرت.
ويعتقد القارئ أن شليجل اسم وهمي لم يرد عند أحد من الكتّاب العرب، في حين ورد اسمه عند آخرين كأحمد أمين، في الجزء الثاني من كتاب النقد الأدبي بإثبات ما يدلّ على الاسم الأول (أوغست) تمييزاً له من أخيه فريدريك، وفي كتاب العقّاد التعريف بشكسبير يعرج على المناظرة الكبرى بين أنصار شكسبير وخصومه، وهنا يضع في رأس قائمة المتحمّسين لشكسبير الاسم الكامل للشقيق الأصغر: فريدريك شليجل. وتردّد اسم شليجل في الأفواج التالية، وبخاصة عند أيّ حديث عن الرومانسية الألمانية.
نعود إلى المحقّق ونقول إنه لم يذكر اسم أيّ موسوعة من الموسوعات التي “وصل” إليها، والتي أخذ منها معلوماته عن شيلنغ الذي خصّه بتحديد سنوات حياته. فهذا الفيلسوف كان معاصراً للبستاني، كما كان معاصراً لشليجل، ولا نطالب المحقّق بأن يسعى وراء دائرة معارف البستاني ولا وراء الموسوعات العربية، فقد تفضّل هذه الموسوعات التركيز على العالم العربي، كموسوعة محمد فريد وجدي، الذي بالتأكيد لن يعثر فيها على اسم شليجل.
كنا نودّ أن يذكر لنا اسم الموسوعة الأجنبية التي استقى منها معلوماته عن شيلنغ، لأنه سوف “يصل” بعد شيلنغ Schellingإلى Schlegel، بحسب ترتيب الحروف. وإذا كانت الموسوعة خاصة بالنقد الأدبي فسوف يجد شليجل بعد شيلنغ… وهذه أسماء بعض الموسوعات الأجنبية المؤكّد وجودها في لبنان. واسم شليجل موجود في كلّ الطبعات، من دون استثناء، إلا إذا كانت الموسوعات مطبوعة قبل ظهور عائلة شليجل، العائلة المتحمّسة لشكسبير وللحركة الرومانسية، والتي لا يخلو كتاب من ذكر النظرية الشليجلية، ناهيك بالموسوعات التي ظهرت فيما بعد.
إلى جانب الموسوعة البريطانية Britannica ، التي كان الكثيرون يقتنونها ويدفعون ثمنها الغالي على أقساط شهرية،هناك الموسوعات التالية (الأولى والثالثة أكثر اهتماماً بالأدب من سواهما): Collier’s Encyclopedia، Encyclopedia Americana، World Book Encyclopedia.
هذه موسوعات عامة، أما المختصّة بالأدب أو النقد، فيحتلّ فيها أوغست شليجل وأخوه فريدريك مساحةً أكبر بكثير ممّا في الموسوعات العامة، كما نجد ذلك في الموسوعة الأدبية الخاصة بمؤسّسة وبستر.
لا أعتقد أن كاتباً من مرتبة المازني يرسل الأسماء جزافاً، ويغامر بتوريط نفسه في ما لا يقبله الكتّاب الصغار على أنفسهم، ولا نتوقّع من محقّق أن يجهل طريقة العثور على أسماء لا يمكن أن تغيب عن الموسوعات العامة أو الفلسفية أو الأدبية، بل موجودة حتى في المعاجم اللغوية الكبيرة، كمعجم “وبستر راندوم”، حيث اسم كلّ من الأخوين.
نأمل أن تأتي التحقيقات القادمة بحسب المقاييس العالمية.
************
(*) مؤسسة الفكر العربي نشرة أفق