د. جـــودت هوشـيار
يمكن القول إنّ ثمّة اليوم ثلاث مدارس في الصحافة العالمية حول علاقة الصحفي بالسياسة :
الأولى : “المدرسة الأميركية” التي ترى عدم جواز الانحياز السياسي للصحفي الى درجة أن العديد من المؤسسات الإعلامية الأميركية تمنع الصحفيين العاملين فيها من الكشف عن ميولهم السياسية خارج إطار العمل بهدف الحفاظ على موضوعية واستقلالية المؤسسة وبحسب مجلة ” النيويوركر” الأميركية ، فإن العديد من الصحف في الولايات المتحدة لا تسمح للصحفيين بالتعبير عن آرائهم العامة أو المشاركة في تظاهرات أو تعليق رموز انتخابية أو ملصقات على خلفية سياراتهم، وترى أن على الصحفي التزام جانب الحياد عندما يغطي مظاهرة أو مؤتمراً جزبياً أو أي نشاط سياسي آخر وأن يكون متوازناً وينشر الآراء المختلفة، لأنه لو انحاز إلى جهة ما، فإنه يفقد مصداقيته وقراءه من ذوي الانتماءات السياسية الأخرى
.
ولقد بالغ رئيس تحرير صحيفة الـ واشنطن بوست Washington Post في هذا الأمر كثيراً، الى درجة أنه رفض الإدلاء بصوته في الانتخابات الرئاسية لكي لا ينتهك مبدأ عدم الانتماء السياسي للصحفي، مؤكداً أن الدور الإعلامي الذي يلعبه الصحفي، يحول بينه وبين الانحياز السياسي ليوفر لنفسه ولقراءة فرصة أوسع من التحليل الموضوعي لشتى الأحداث والمواقف من غير تدخل الميول والمزاج السياسي.
وترى هذه المدرسة، أن العمل الإعلامي هو أحد ميادين التحليل والحكم الدقيق وهو عالمي ووطني اكثر مما هو فئوي أو أيديولوجي، فهو كالقضاء المستقل بطبيعته الداخلية يرفض ان يتماهى مع الأنتماء السياسي المحدود .
الثانية: “المدرسة الأوروبية” التي لا تمانع أن يكون للصحفي انتماء سياسي خارج إطار العمل، على ان يلتزم بالمعايير المهنية للصحافة المستقلة، لأن الكثيرين من أفراد المجتمع – أي مجتمع – لديهم ميول سياسية، ولا ضير أن يكون للصحفي أيضاً رأي سياسي أو حتى انتماء سياسي ولكن العيب والخطا هو أن يتم تغطية الأخبار والأحداث، ليس كما تقع على ارض الواقع ، وانما كما يهوى الصحفي وما يحقق من خلال تغطيته للجهة التي ينتمي أليها أو للوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها، فالمطلوب إذن وعي الصحفي لأدوات ومعايير العمل الصحفي، وإدراكه لدور الصحافة والتزامه بالمصداقية والحيادية أي أن يكون الانتماء السياسي خارج العمل الإعلامي المهني.
الثالثة : هي “مدرسة عالمية” تقسم الصحافة إلى نوعين:
الأول : صحافة بلا موقف سياسي، وهي الصحافة، التي لا تعبر عن اتجاه سياسي معين، أو تتبنى إيديولوجية بعينها، وإنما تفتح صفحاتها لكل الآراء والاتجاهات السياسية، والاجتماعية ولكل أصحاب الرأي على اختلاف رؤاهم. وتركز على الموضوعات التي تهم القاريء العادي وتخاطب عواطفه بالدرجة الأولى، كالجرائم والجنس والرياضة وأخبار المجتمع وفضائح المشاهير والأحداث الطريفة والغريبة والمسلية .
والثاني : صحافة ذات موقف سياسي :
لكل صحيفة بصرف النظرعن حجم انتشارها سياسة ما، ويلعب تمويل الصحيفة دوراً في تحديد سياستها التحريرية ومواقفها من قضايا المجتمع، وتنتمي غالبية الصحف الصادرة في أوروبا الشرقية والبلدان النامية الى هذا النوع من الصحافة تحديداً، على خلاف الصحف الغربية ذات الاتجاه السياسي، التي تتسم بالمهنية ولا تخلط بين الصحافة والسياسة، بل تلتزم بأخلاقيات العمل الصحفي، وفي مقدمها صحافة النخب المؤثرة في المجتمع، التي تتسم موضوعاتها بالدقة والموضوعية وتتصف معالجتها للأحداث بالاتزان، وتميل إلى التحليل المعمق للأحداث السياسية المحلية والدولية وتتجنب نشر الفضائح ، إلا إذا كانت لها أهمية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ، ولعل خير مثال على هذا النوع من الصحف، صحيفة ” الغارديان” البريطانية ، التي يرى خبراء الصحافة، أنها الجريدة الليبرالية الأولى في العالم ، إلا أنها انتقدت بشدة الإدارة الأميركية الليبرالية عند نشرها وثائق “سنودين”، وجسدت بذلك القيمة الأكثر أهمية في العمل الصحفي وهي الأمانة المهنية… وأنها على استعداد لإلحاق الضرر بالتيار الذي تمثله باسم الحقيقة. وهي تدافع ليس عن المصالح السياسية لحلفائها، بل عن المساءلة والشفافية في الحكومة، وتوازن السلطة وحق الشعب في أن يعرف مع الحرص على عدم انتهاك الخصوصية الشخصية .
الحياد الإعلامي
صفة الحياد مبدأ أساسي من مباديء الصحافة المستقلة، تماماً كالجهاز القضائي، فالقاضي المنحاز لأحد طرفي القضية تنتفي صفة الحياد منه ويعتبر غير جدير بممارسة مهنة القضاء، لأن هدف القاضي هو التحري عن الحقيقة وإقامة العدل وانصاف المظلوم .
الأخلاقيات المهنية تتطلب تطبيق القيم الأعلامية الرئيسة بمصداقية ودقة، لضمان تغطيات محايدة تعكس تنوع الآراء ووجهات النظر المتعددة وعلى نحو متوازن، والتحقق من عدم وجود جهة لم يتم عكس آرائها بشكل منصف، وتجنب ما يسيء الى قسم من الجمهور المتلقي، والتعامل بأمانة مع مصادر المعلومات وإتاحة الفرصة للرد من قبل من يمسهم الموضوع.
وإذا أراد الصحفي إبداء وجهة نظره الخاصة حول مسألة سياسية، فإن المجال مفتوح أمامه من خلال مواد الرأي الحرة أو الموجهة التي قد تكون على شكل مقالات أو أعمدة صحفية تتيح لكاتبها حرية إضفاء مواقفه الإيديولوجية وانطباعاته الشخصية على الحدث .
ولكن الممارسات الصحفية في شتى أنحاء العالم تثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن هذا المبدأ يكاد أن يكون غير قابل للتطبيق من الناحية العملية ، حتى أن بعض منظري الإعلام ينفي وجود الحياد الإعلامى أصلاً . وكما أشرنا آنفاً، فإن لكل وسيلة إعلامية، سواء كانت حكومية أو حزبية أو خاصة، سياستها التحريرية التي تعبر عن مصلحة مالكها أو الجهة الممولة لها. والحياد لايمكن توافره في ظل وجود مصلحة مادية أو سياسية . وبقدر تعلق الأمر بالصحفي نفسه، الذي يغطي الأحداث السياسية ، ليس من السهل عليه أن يكون محايداً دائماً، فهو ليس مجرداً من الحس الاجتماعي والرؤية السياسية ، وليس بإنسان آلي يقوم بنقل الأخبار فقط ، بل هو شخص يعايش الحدث أكثر من الآخرين .
وفي الوقت نفسه فإن الحياد الإعلامي المنشود وثيق الصلة بمدى الحرية التي يتمتع بها الصحفي في تغطيته للأحداث، أو تناول أي موضوع يراه مهماً، فهو لا يمكن أن يكون حيادياً عند تغطيته للأحداث السياسية، مع وجود خطوط حمراء لا يمكنه الأقتراب منها أو مصلحة تفرض عليه حجب بعض الحقائق . هل عفا الزمن على قاعدة ( الخبر مقدس والرأي حر) ؟
في نظرية الإعلام قاعدة تقول إن ( الخبر مقدس والرأي حر ) وينبغي الفصل التام بينهما، فالخبر يكتسب صفة القدسية، من واقعيته، وحقيقة حدوثه، ولا بد من التحري الدقيق قبل نشره، لأن دور الصحفي هو تغطية الخبر بصدق وأمانة وإيصاله للمتلقي دون تشويه أو تحريف أو محاولة تطويعه لسياسة الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها، فطالما هناك حدث، مهما كانت درجة خطورته أو تأثير تداعياته، يجب ان يعرفه المواطن، فهذا حق من حقوقه (المواطن ) وواجب الصحافة في آن واحد .
ولكن البعض يجادل بأن هذه القاعدة قد عفا عليها الزمن وأصبحت بالية في عصرنا الراهن ولا يتقيد به معظم الإعلاميين حالياً، بل على النقيض من ذلك، كل الأخبار تحمل اليوم رأياً، وأن الحدث الواحد يعرض في وسائل الإعلام بصيغ مختلفة، وكل صيغة تستبطن رأياً أو توجهاً تسوس الخبر، حسب رؤية الوسيلة الأعلامية للحدث .
والحق أن الخبر الذي لا يحمل رأياً لا يجذب الانتباه، لأن الجمهور غير متجانس في ميوله السياسية، وتوجهاته الفكرية، وخلفياته الثقافية وغير محايد كما وسائل الإعلام، فهو يبحث عن الوسيلة الإعلامية التي تدعم ميوله السياسية ، وتتفق مع توجهاته الإيديولوجية. وأي وسيلة إعلام تعمل بمبدأ الحياد ستلقى الأعراض من الجمهور وتكون بضاعتها كاسدة .
إن تجريد الخبر عن قدسيته لصالح الرأي يتجلى بأوضح صوره في البرامج النقاشية للقنوات الفضائية، عبر استضافة المحللين السياسيين الذين تنسجم توجهاتهم السياسية والفكرية مع سياسة تلك القنوات، حيث نرى كل واحد منهم يتناول الخبر الواحد من زاوية معينة ، وقد يصل الأمر بهم إلى التقليل من أهمية الخبر مدار الجدل أو حتى التشكيك في صحته،. ونرى على هذا النحو أن الرأي يطغى على الخبر، وتضيع الحقيقة في خضم التحليل. والفضائيات تمنح للرأي مساحة ووقتاً أكبر بكثير من مساحة ووقت عرض الخبر ، وبذلك تعبرعن وجهة نظرها في الحدث على نحو غير مباشر .