د. روجيه نبعة*
بعض المصطلحات العربية المتداولة في المجال الفكري السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي منقولةً عن اللاتينية، تُستخدَم في هذه المجالات مقطوعةً عن السياقات التاريخية والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ولِدَت فيها. بحيث يُطلِقها هذا الاستخدام وكأنها تحمل مدلولات مطلقة، قائمة بذاتها، تصلح للاستخدام بمعزل عن تلك السياقات والظروف.
وكأنما أحمد أمين لم يقُلْ “لكلّ كلمةٍ تاريخٌ يشبه تاريخ البلاد”؛ ما يجعل من تلك الكلمات والمصطلحات أدوات لغوية لا تيسّر فهم المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية النابعة من مجتمعاتنا. فهي مشكلات يحتاج فهمها إلى أدوات لغوية ومفاهيم فكرية نابعة من الثقافة واللغة العربيّتين. كما يحتاج فهمها إلى تبيان الفوارق المفهومية لتلك المصطلحات وما يقابلها من مصطلحات يبقى وجودها مرهوناً بقدرة المفكّرين العرب على اجتراحها وتداولها..
يقول أهل اللغة إن الكلمة تتقمّصُ معنىً وتحيلُ إلى مدلول؛ إنهـا دالةٌ تشـير إلى مدلول. وهي بهذا تطرح مشكلة العلاقة بينهـا وبين الأشـياء التي تسمّيها والأمور التي تشير إليهـا. أفترى الكلمات الواردة في المقالات المنشـورة، في هذه الصفحات وسواهـا “تعكس” حقيقة مـا تقصده وتشـير إليه، هنا وفي الخطاب السياسي العربي أو في السياسة العربية بعامة؟ أم أن ثمّة شيئاً انحرف بهـا، فباتت تسميّ شـيئاً لا وجود له، أو شـيئاً موجوداً يُقَدِّمُ الكلام توصيفاً مزيفـاً له؟ وذلك تجديد بالغ التعقيد، بخـاصة بعدما “تعوْلَمَت” الحـداثة الغربية فارضةً خطابهـا ومدلولاتهـا. فقد فرضت هذه الحداثة نفسها وخطابهـا في بعض القطاعات كالإدارة العمومية والتعليم، من دون أن تجد منازِعاً أو منافساً، لكنهـا اسـتولت في قطاعاتٍ ودوائر وحـّيزاتٍ أخرى، على الخطاب السـائد فانحرفت به ولم تلغه بالكامل، وغيَّرت فيه ولم تمْحِهِ من الوجود.
ولعلّ التمثيل خيرٌ هنا من التدليل. فمصطلح nationalism /nationalisme لم يكن له وجودٌ فيمـا نعلم، إلا في العالم الأوروبي. أمـا الآخـرون من غير الأوروبيّين ـ ونحن منهم ـ فإن هذا المفهوم كان غائباً عن خطابهم. فلا أثر لهذا المصطلح أو مـا يوازيه ويراجحه في خطاب الإسلاميّين. ليس لقصورٍ في هذا الخطاب، وإنمـا لغياب موضوعه. ومـا كان للعقل أن يبحث عن تسـميةٍ لموضوعٍ لا وجود له، أو لنقل إنه كان غير موجود (ولا يزال؟) فالكلمةُ التي اشـتُـقَّ منها المفهوم، أي nation كانت تشير إلى موضوعٍ أوروبي خالص وحديث. أمـا العرب، والمسلمون بعامة، فكان لديهم مصطلح أمة، الذي تـتولّد عنه جماعـة تتكوّن بتـآلف عصـبيـات. لكن الحداثة التي جاءت عنوةً مرّة، وتقليداً مرّةً أخرى (تقليد المغلوب الخلدوني الشهير للغالب) أوجب على عصر النهضة عندنا أن يجد في هذه مقابلاً لتلك. الأمة هي nation، وسنشتقّ منها! ماذا؟ قومية من قوم. وســتقول بعض الأقوام من “بني قومنا ” إن هذه أفكـار مســتوردة، لكن من ذا الذي يسـتطيع وقف الاسـتيراد!
انفكّ رباط الكلمة (كلمة أُمـّة) برابطهـا الإسـلامي الذي كان يشـكّل أساسها، لتتمحور على رابطٍ عرقيٍ وسـلاليٍ، هو الانتـمـاءُ العربي: رابطٌ يأذنُ بمصطلحٍ ويُـرخّصُ لتعبيرٍ مثل أمّة عربية (بدلاً من أمّـة إسـلامية)، وذلك لتسـمية موضوعٍ جديدٍ، وحقيقةٍ عيانيّةٍ جديدةٍ لم تأتِ من الأرضية العربية أو الإسـلامية، وإنمـا من موضوعٍ خطابي، ومن عيانيّةٍ خطابيةٍ وفَـدت إليه من الخطاب الغـربي المسيطر. ومـا يصحّ على مفهوم الأمـة والقومية يصحّ على مفاهيم أخرى كثيرة: المجتمع المدني، الرأي العـام، الدولـة – الأمـّة، الديموقراطية، إلـخ.. كلمات لا تدري إلى مـا تحيل، اللهم إلا إلى تعثـُّر ما سُـِّمي لاحقــاً في بلادنا بالنهضة. فقد أرادت نهضة المغلوبين أن تتحقّق بلسان الغالب… والنتيجة هي أن النهضويّين مـا وضعوا يدهم على مفهوم إلا وخرج مثلوماً، إما في المحتوى وإما في الــ ما سبق، وإما في كليهما.
ولا تقتصر الفضيحة هنـا على واقعة فرض الخطاب الغربي السياسي في العالم على حساب الخطابات السياسية الأخر كافة، بل في واقعة تنصيب نفسه حَكَمـاً على الخطابات الأخرى. فعبره هو، وبالرجوع إليه هو، وبالاستناد إليه هو، وبالنظر على ضوئه هو، يكون الحكم على خطابات الآخرين. أهي خطابات ملائمة موائمة أم أنهـا خطابات مُوَات؟ لقد نصَّب نفسـه خطاباً حَكَمـاً مطلق المرجعية، متسـامياً مفارقـاً للمادة وللتاريخ، ينطبق على الناس كافة وعلى المسكونة قاطبة ـ وتلك خدعةٌ يُخفي بهـا زمـانيّته ويموِّه بها تاريخيّتة: فهو وليـد ما بين القرنين الخامس عشر والسـادس عشر، وليس قرين الأزل؛ بدايته هي بداية الحداثة الغربية وليس غياهب الأبدية وثوابتها. ومكانه يقتصر على أوروبا الغربية، ولم ينتشـر في العالم إلا بقوّة السـلاح وفعل الغزوات، وتكاثر الإبادات، وبالاســتعمار، ومن ثم بالإمبريالية، والآن بالعولمة.
وإذ تتبنّى خطاباتُ المقهورينَ السياسيةُ الخطابَ الغربيَّ على أنه خطاب الناس كافة والبشر أجمعين، أي حين تنسى خصوصيته وانتماءه وتاريخـيّته ومقاصده، وتعتمده في الحديث عن مجتمعاتهـا، فإنهـا في الواقع تسـتخدم كلمات بلا مؤدّى، ودالاّت بلا مدلولات، ومصطلحات لا تُحيل إلى أية حقيقةٍ عيانيّةٍ تاريخية أو اجتماعية أوسـياسية أو أنثروبولوجية أو أنثروبو ـ سياسية…حتى لكـأنها لا تتحدّث عن السياسة وإنمـا عن الغول والعنقاء. والنتيجة التي يُفضي إليهـا هذا التيه ليس تشويه خطاباتهم للحقيقة أو إفسادها للواقع، بل في إحلالهـا لحقيقةٍ منحولةٍ محلّ الحقيقة الموجودة، وأنها تتمثل حقيقة أخرى أو حقيقة مغايرة، عيبُها الوحيد هو أنهـا لا تتصل بالحقيقة التي تقوم بتسميتها وتعيينها وتوصيفهـا بأيّة صلة. إنهـا خطابات تُنشئ واقعاً غير واقعي، وحقيقة غير حقيقية. وهذا الـ “غير حقيقي” والـ “غير واقعي” ليس الفراغ. إنه ليس بوعاءٍ خاوٍ بل هو إنـاءٌ مُترَعٌ يفيض بحقيقة منحولةٍ وواقعٍ مزوّر يجعل منه الخيال حقيقةً واجبةَ الإنشـاء، وذلك بإكراه الحقيقة وتعنيف الواقع وقسره. والواقع أن إكراه الحقيقة العيانية وتعنيفها لكي تتفق مع الخطاب الذي نقوله عنهـا، هو إكراهٌ لامثيل له إلا ذلك القسر والإكراه الذي يُمارَس على الأذهان والعقول لتقبَلَ بهذه الحقيقة وتسلِّـم بالكلمات التي تقولهـا.
يبقى أن التنديد بالهيمنة الغربية لا يكفي، حتى ولو كان حقـّاً مشـروعأً. التنديد لا يرفع الأذى ولا يدلّ على السبيل المناسب لمواجهة عقابيل هذا الخطاب. والحديث عن الخطاب المسـتجدّ يذكّرنا بضرورة تناول الخطاب “القديم” والتفكير بالخطابات “القديمة” التي كانت سـائدة قبل خمسة قرون، أي قبل دخول الغرب. أما زال بالإمكـان اسـتخدام هذه الخطابات، كمـا هي، أو بالأحرى كمـا كانت، أي كمـا لو أن شــيئاً لم يكن، أو كمـا لو أن العولمـة الغربية توقّفت عن التواصل والتأثير منذ خمسة قرون؛ أو كمـا لو أنهـا لم تخترق كلّ شيء، وهي تمضي في طريقهـا صُعُداً، لتصبح جبروتـاً عالميـاً؟
التفكير حول هذه الخطابات “القديمة” لجهة تلاؤمها وتواؤمها، والتسـاؤل عن قيمتهـا المرجعية والعملياتيّة حين تسـمّي وتعيـّن الآن، حقيقة عيانيّة كانت قائمة ولكن في زمن مضى وانقضى ـ حتى ولو كان لا زال لها وجودٌ مـا، على نحوٍ مـا، اليوم. إذ ما الذي نعنيه اليوم، وهنـا، والآن، حينمـا نتحدّث عن عروبة وعن قومية عربية، كمـا يتحدّث البعض، أو عن أمـّة إسـلامية كمـا يفعل بعضٌ آخر؟ وهل يمكن أن نفهم العصبيّة اليوم، بعدما مضى على ولادتها حينٌ من الدهرِ ظهرت فيه العولمةُ، وتكوّنت فيه دولٌ كيفمـا اتفق (ولا تملك من الوسائل التي تحتاجها الدولةُ، وسيلة)…كمـا كان يفهمهـا ابن خلدون؟ كان أحمد أمين يقول:”لكلّ كلمةٍ تاريخٌ يشبه تاريخ البلاد”.
دوهل تسـتطيع كلمــات الخطاب الإسـلامي والخطـاب الخلدوني والخطابات “التقليدية بعامة” ـ التي جرى تصوّرهـا في حُقَبٍ قُـيّض لهـا فيهـا أن تسـمّي وتعيـّن وتوصّف حقيقةً قائمةً موجودةً، أو كانت قيد التكوين ـ هل تسـتطيع هذه الكلمات أن تنسى تاريخ ولادتهـا وأن تتسـامى بدورهـا على التـاريخ وتتفلّت من مجراه ومن مســراه وتخترق خمســمائة عام، لتجد نفسها في أصالة البدء، وتدَّعي، كما كان خليل حاوي يقول، “البكارة”؟ أفلا يعني هذا ـ إن كانت بكارتهـا علامة مسـجّلة لا تفارقها ـ أن محتوى الكلمات في هذه الخطابات “القديمة” (مثل أمّـة، عروبـة، ممـانعة، جمـاعة، عصبيّة، غلـبة…) هي مصطلحات بدهيةٌ بذاتهـا؟ أفلا يفترض هذا أن وحدانية الكلمة تُحيل إلى وحدانية الفكرة، التي تُحيل بدورهـا إلى ثبات الحقيقة العيانيّة وارتفاع التغير عن الواقع اللذين جرت تسـميتهمـا في الماضي؟ أفلا يفتَرِضُ هذا أن هذه الكلمات هي صاحبة معنىً واحدٍ فلا تتأثر بتصريفات أو بتصاريف، لأنهـا مفارقة للتاريخ متسـاميةٌ عليه؟ .
الخطاب الحديث والخطابات “التقليدية” باتـا في معمعةٍ خطابيّة تتوالد في حروب دموية.
كان هولديرلن يقول”لا بدّ لك لكي تكون أنتَ نفسك من أن تتعلّم مـا هو لك، كمـا لا بدّ لكَ من أن تجتاز اختبار الغريب وامتحان الأجنبي”. هذا هو التحدّي الذي يرفعه الغرب في وجه الشعوب كافة: ابتداعُ خطابٍ نقائضي أو تناقضي، يسـتعيد الماضي (فيتعلّم أصحابه مـا لهم) ولكن من دون “بكارته”. لابدّ له ولنا من أن يمرّ على امتحان الغريب، ويعبر اختبار الحداثة.
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي نشرة افق
(*) مفكّر وباحث في الفلسفة ـ لبنان