“حي الأميركان” للكاتب “جبور الدويهي”… حكاية تلد حكايات

د.  علي نسر

guilaf amerkanتحمل رواية “حي الأميركان” للكاتب “جبور الدويهي”- دار الساقي- هوية العمل الفني والابداعي لما حوته من مقومات فنية جعلت هويتها روائية..

وعلى الرغم من فنيتها، إلا أنها تثبت وعن جدارة، ما قيل وما زال يُقال حول طبيعة العمل الروائي، بأنه بحث ابداعي، أو ملحمة سردية تقدم لنا أبطالا إشكاليين لا ينسجمون وطبيعة الحياة التي يقيمون في اطارها زمانيًّا ومكانيًّا… لذا استطاع الكاتب ان يجعل من روايته هذه بوقًا او منبرًا، لاعلاء صوته، محاولا ان تدوّي صرخته في ضمائر شبه غائبة، مسلطًا أضواءه على حي له مرجعيته على خريطة الوجود الممحوّة من ذاكرة الكثيرين..

إنه حي الأميركان في الشمال اللبناني، الذي يتخذه الروائي بؤرة سردية او صندوق صوت ليقدّم صورة شبه مأسوية عن منطقة اُريد لها أن تكون مهملة وحين أراد أهلها ان يتمردوا في مراحل مختلفة، كانت تحركاتهم خاطئة تسير في طريق منعرج او منحرف، أو صوّبت عليهم البنادق وكأن هذا المكان قد كتب على أهله أن يظلوا تحت رحمة الجائرين غرباء كانوا أم ممن عمل الغريب على جعلهم ذوي صورة من الظلم والجور.

وعلى الرغم من كثرة القضايا التي عالجها النص، حيث الحكاية تلد حكايات بعيدة زمانيا وقريبة، إلا أننا نستيطع أن ننطلق من الصراعات التي سيطرت على اجواء الرواية وعلى عناصرها الفنية من مكان وزمان وشخوص، فيؤكّد لنا هذا النص أن الصراع هو المحرّك الاساس لعجلات الحياة والوجود، وليس من مكان يخلو من هذه الصراعات سوى الامكنة المثالية التي رسمتها لنا الاديان كالفردوس وما شابه. وتشير الرواية من خلال تضافر تقنياتها التي تشكّل مرحلة الفهم والتأويل، إلى أن الصراع الاكثر حضورا كان ذا بعد نفسي قائم على الكبت الجنسي الذي المح اليها الكاتب من خلال حركات معظم الشخصيات على المسرح، بالاضافة الى الصراع ذي البعد الاجتماعي والاقتصادي الذي تحركه علاقات الانتاج التي تحدث عنها الماركسيون..

فالحي يشكّل حقلا خصبًا لتجارب الآخرين فوق ترابه، لما فيه من بيئة مؤهلة لاستيعاب اشكال العنف لما تعانيه من كبت وفقر وعوز ليشكّل العاملان النفسي والاقتصادي السبب الابرز لانجراف شباب الحي بتيارات مختلفة وصلت الى مرحلة التطرف الاصولي من خلال اسماعيل أحد ابطال النص الرئيسيين.(كان سكن عائلتين معًا في منزل واحد ضيّق ومتداع حظي باهتمام مراسلة احدى المحطات التلفزيونية التي تأثّرت بتكرار الكلام حول البؤس المستشري في أحياء المدينة القديمة وعلاقة ذلك بالعنف وازدهار الحركات الاصولية.-ص24).

وعلى الرغم من ظاهر النص الذي يشير الى التحولات التي أصابت أبناء هذا الحي، إلا أننا نجد ما يشبه الثوابت في تركيبة أهله، فالابناء امتداد للآباء والأجداد، وكأن الرضوخ للمصائر أمر واقع، فام اسماعيل ورثت الخدمة في البيوت عن امها والعمل في الدار نفسها وهي دار آل العزام ذات السلالة الاقطاعية والسياسية.

كذلك اسماعيل شكّل امتداداً واضحاً لأبيه من خلال تسلمه مسدسه الذي يحتفظ به منذ انخراطه في حرب من دون وعيه بمخاطرها، وهذا ما حصل مع الابن الذي ذهب ليقاتل في مكان غريب من دون معرفة العدو الحقيقي وكاد ان ينهي حياته بطريقة مأسوية عبر تنفيذ عملية انتحارية في باص يقل مدنيين من نساء واطفال. والشخصية الوحيدة التي كان لها صفة التمرد ومحاولة التغيير هي شخصية عبد الكريم العزام أحد ابناء العائلة الاقطاعية، اذ منذ صغره خالط الآخرين خصوصا الفقراء واكل معهم، وشارك خادمته في اللعب وهما صغيران، فنراه يخرج على ما هو مألوف لدى عائلة لها بروتوكولات معينة.(هكذا بدأ معه هذا الشعور بأن الدنيا هي حيث لا يكون-ص39).

أما الجانب المتعلق بالكبت الجنسي، فهناك اشارات كثيرة حوله، وأكثر ما تمثّل بتصرفات صاحب البيت ونظراته المريبة لأم اسماعيل، وكذلك نظرة الشبان للحارات المسيحية وصباياها..ولكن الأكثر بروزا كان في اشارة سريعة من الكاتب الى عوامل الازمة عند اسماعيل الذي انقلب واستحال رجلا متدينا فجأة، وذهب الى ما ارادوا له الذهاب اليه بعد مبيت غريب بين يدي عبد الكريم بعد السكر وشرب الويسكي، ليستفيق مذعورا ويخرج غير قادر على الالتفات الى الوراء.(…استيقظ اسماعيل، فكّ ذراعي عبد الكريم من حول جسمه، وقف ليرش وجهه بالماء، نظر الى نفسه طويلا، لن يتحمل النظر في عيني عبد الكريم عندما سيستيقظ بعد قليل. جمع اغراضه القليلة وفرّ من منزل آل العزام لا يلتفت وراءه-ص106).

وظل حذرا وخائفا من اقتراب اي رجل منه او ملامسته في طريقه الى العراق، خصوصًا في حضرة طيف عبد الكريم وتخيّله:( ينتظر ويعيد ويضيف عن امه… وعن عبد الكريم الذي يقلم الاشجار ويتأمل في راقصته حتى قرر الشاب الذي يفهم لهجته الاقتراب منه لمساعدته ومحاولة تخفيف هذيانه في عتمة المكان فارتعد اسماعيل وصدم كوعه بالجدار الحديدي ما إن حاول رفيق الرحلة ودليلها ملامسته-ص122).

ومن القضايا المهمة التي تدفع القارئ ان يتوقف عندها، ادراج موضوع المسيحيين وعملية تهجيرهم من المنطقة، خصوصا العراق، وكأنّ هناك تحذيرا من مخاطر هذا العمل اللامسؤول، لأنّ في وجود المسيحيين دورًا مهما في عملية الاستقرار والعيش، وقد ادرجها الكاتب بطريقة رمزية عبر العائلة التي ساعدت اسماعيل على العودة الى بلاده…

لم يعمل الكاتب على جعل الرواية ذات نهاية ماسوية او سعيدة، بل جعلها معلّقة ليجعل المتلقي متلقيا ايجابيا يسهم في كتابة النص كشريك لا بد منه، اذ ترك له حيزا واسعا للتحليل والمشاركة في الاستنتاج، وكأن هذه النهاية المفتوحة تأكيد بأن الكاتب يروي حكاية حياتية غير متحكم بها كأي مصير حياتي آخر.

*****

بالاشتراك  مع aleph-lam

www.georgetraboulsi.wordpress.com

اترك رد