الأديب أنطوان أبو رحل
كنت كلما قرأت قصيدة باللبنانية، أو نصاً نثرياً بالفصحى أو العامية، لقزحيا ساسين في الصفحة الثقافية في “الانوار” أحس بأن هذا الشاعر يعيد ترتيب المعاني بإرادة جمالية مغايرة، وتصبح ارادة الجمال هي الشكل الذي يكوّن النص الشعري ويتكوّن الشاعر فيه.
كان قزحيا كلما عاود نشر جديده شدني إليه. في نتاجه مزيج من براءة الناثر ونبل الموقف الشعري والأخلاقي والمعرفي… هو شاعر من نوع مختلف. حداثوي. مستقبلي. مؤمن بالكلمة التي يكتبها ومؤمن بأن اللفظ هو وسيلة التغيير والتعبير.
ولا أخفيكم اني أحببت هذه القصائد التي هي حكاية عن تصور ساسين للكتابة والحياة والجمال… حيث حبر الحياة معنا، وحيث الكتابة فعل تحويلي.
من هذا المنطلق رحت أفتش على نتاجه فإذا بي أقع على خصب شعري وأدبي، أشبه بالكنز المرصود، أصدر الشاعر دواوين عديدة، ونصوصاً متعددة، وقعت على غالبيتها: ” نحّات الهوا” 1997 (شعر باللبناني)- “غيمة قمح” 1999 (شعر باللبناني)- “فيِّة صليبك سيف” 2000 (شعر باللبناني)- “مرا لِ مبارح” 2002 (شعر باللبناني)- “ماءُ الكلام” 2006 (نثر فصيح)- “جرْح الحفا” 2008 (شعر باللبناني)- “وحْدي بَلا حالي” 2010 (شعر باللبناني)- “تياب عريانِه” 2012 (نَسِرْ باللبناني)- “برّا القصب” 2013 (نَسِرْ باللبناني).
وأخذتني رحلة المشتاق اليه فاكتشفت ان قزحيا ساسين هو صاحب الصورة الشعرية المختلفة التي تهدم المنطق وتنفتح على فضاء لفظي لا نهاية له.
وكنت كلما توغلت في رحلتي معه احس إن الولائم الكبرى للشعر يقيمها الشعراء المتفردون. والقلوب تكبر بهم وبما يزرعون من حب أسمعه يقول في ديوان “وحدي … بلا حالي” وفي قصيدة ” يا التخت… يا تخت الورق” يقول:
وبْشِقّ بابي عالسَّكِتْ
شي بلمح خْيال لْ مَرَق
يمّا المرا فوق التّخِتْ
يمّا القصيدِه…عالورق
قصائد قزحيا ساسين ليست فقط استمراراً لتجربة رائدة في الشعر العربي… بل هي استكمال للبحث عن أفق الحداثة لا يني يتجدد ويزداد عمقاً ونضارة. تجربة ساسين لا تنغلق في نظرية للشعر، بل تحيا وتنمو في غبطة العيش والنبض في الاختيار المؤلم واللذيذ في القصائد، عناوين ومضامين. في وجوده الشعري عرّافة، وتنبؤات، وزهو، وتجليات، والابداع في عرس دائم. شعلة لا تعرف الرماد. لنسمعه معاً في قصيدة “إصبع دهب”:
تبقي تعي
عالباب حطّيلي القصيدِه… وارجعي
ولا يوجَعِك قلبِك وتلتفتي لْ ورا
ونامي مع الشيطان… ما بتفرق معي
وكنت اشعر معه انه حين ينقص احدنا شيء من السعادة، شيء من الحب، شيء من الحياة، ليفتح دواوين هذا الشاعر في حنان، ويهرب اليها، ويسهر معها. ويصلي لها وبها لأن الشاعر عرف كيف يدخل بشراراته البكر كتاب الشعر المقدس. وكيف اصبح عبارة في انجيل الشعر، وبخوراً في قصائده، وفرحاً في أعين الناس الذين يحبونه ويقرأونه وينشدونه، لما فيه من حلاوة وطفولة وطهارة، ولما فيه من تجسيم صارخ وجامع وشامل لقلق انسان يسكننا جميعاً.
قزحيا هو نسيج وحده لغةً، وروحاً شعرية مغايرة…
تجمعه قرابة روحية مع الشاعر ميشال طراد رائد تطوير الشعر اللبناني بالعامية وتحريره من زجليته، ومن منبريته، ورفعه الى مصاف الشعر الصافي…
وتربطه صلات وثيقة بالشاعر شوقي ابي شقرا مؤسس الدهشة والغرابة في حداثتنا الشعرية، وبخاصة في نصوص ” ماء الكلام ” و ” تياب عريانه ” لكن كلما تعمقت فيه تكتشف ان الشاعر قزحيا ساسين لا يدخل في ظل بل هو ظل ذاته، وظل قصيدته، ومسكون بفكرة التجدد كأنه ينحت من ذاته وخاصيته… إذ يكتب نصه ويكسر حصار الرؤية ليحرر المعنى من كل ما يخنق القول، فالحداثة لا تعني شيئاً إن اعوزت الطرافة .
الحداثة ان تحدث جرحاً في جسد النص. فمن يترك جرحاً يترك أثراً، وفي هذا المعنى ترك قزحيا بصمات مدهشة … لانه صياد ماهر وجذاب يجيد سبل التعاطي مع الحرف والمفردة والرمز والعبارة، المحوط بالاسرار، والذي لا يدرك النقاد من نصه الا القليل. يغوص في الشعر حتى الغرق ويطفو به حتى التحليق.
اذا كانت النصوص الشعرية انعكاساً صادقاً لاسلوب الشاعر وحياته، وفكره، ورؤاه، في الكتابة فهذه هي تنطبق تماماً على مسار قزحيا ساسين، وعلى لغته الشعرية، وما تحمله من مفردات وجمل وعبارات مغايرة.
يتابع الشاعر تجربته التي كلما تقدمت في المغايرة، كلما ازدادت عمقاً وامتلكت لا ادوات الاسلوب الناجز، بل العناصر المفاجئة التي تجعل من الكتابة افقاً للاسلوب الذي يكسر قوانينه وميزاته ويتجاوز نفسه كما في “ماء الكلام” ، وفي نص من سطر واحد بعنوان: “حديقة” وفيه: “ألأسد حديقة حيوانات… متجوِّلة”.وفي نص “رجل” يقول:”ألحزن رجل واحد لجميع النساء”
وفي نص “ألصّيد للصّيد”: “ألوقت هو الصّيّاد الوحيد. الّذي تسقط طرائدُه خلفه. فهو لا يرى إلاّ أمامه”.
في قصائد قزحيا ساسين ميل لاخفاء هذا القدر الكبير من “الشغل”، من الصنيع الفني على الصورة، وعلى الشكل اللغوي الذي تأنس اليه وهو صاحب حرفة في الكتابة تجهد لأن تخفي ادواتها عندما يتوصل الجهد الى هذا القدر من تطويع اللغة واستدراجها الى ما لا تستطيعه، وبخاصة في السرد الساخر والعفوي معاً.
لنسمعه معاً في نص: ” إلى السّرير الشّخصيّ” ففيها: “لا أحبّذ النوم مع اللغات في أسرّتهنّ.
إنّما على الشاعر أن يصطحب لغته المفضَّلة إلى سريره الشخصيّ.مهما كلَّف الأمر”.
اوكما في ” نشوة الصلب”: “نشوة المصلوب أنّه فوق صالِبيه”.
وفي نص “جزاء” يقول: “ألسهل تراب حَرَمَهُ الله نعمةَ الصّعود”.
كما في نص “سِرب أقفاص”: ” ليس المعنى لصّاً. لتكون وظيفة الكلمة إلقاء القبض عليه. ألكلمة قفص أنيق. مفتوح الباب. يأوي إليه المعنى عندما يتعب من حَمْل جناحيه طليقاً.في حديقة اللّغة. سرب أقفاص لم يعطّر قضبانَها جناح”.
ويستوقفك نص “لن تقتلني امرأة… مرّتين”: “ويهمّني جدّاً أن تعلمي أنّني مستعدّ لتقديم رأسي على صينيّة من ذهب ألف مرّة ولألف امرأة…غير أنّ امرأة واحدة لا تقتلني… مرّتين”.
وحين تتمعن في هذه النصوص تكتشف كيف ان ساسين يحمل اسلوبية الشغف بالاقتطاف. “والاقتطاف” ظاهرة أدبية تميزت بلبنانيتها بين ابناء العربية. كان يسميها جبران خليل جبران “رملٌ وزبد” والريحاني “بذور للمزارعين” ثم راح يسميها راجي الراعي “قطرات ندى” وسعيد عقل “كتابة الورد”.
ويقول المسرحي والناقد عصام محفوظ في دراسة له “حول الاقتطاف”: “هو النثر المصقول الايجاز، المفاجئ الصورة، العميق الفكرة، يكتسب عن طريق الاقتطاف نكهة شعر دون ان يصير شعراً ويتراجع عن الشعر دون ان يصير نثراً…”
ومع شاعرنا صارت تجربة الاقتطاف اكثر حداثة، واشد كثافة، واقرب الى اللماعية المقصودة من هذا الأسلوب. ازداد اختزالاً وصقلاً… ويغامر في ان يكون متفرداً وفي ان يفسح للقول مكاناً ليس خارج المألوف فحسب، بل وخارج الغرابة نفسها…
كان في نية “مالارميه”، كما كشفت الابحاث في مخطوطاته غير المنشورة، ان يضع كتاباً يطمح الى ان يكون عالماً في تشكيل مستمر لا ينقطع عن التجدد في نظر القارئ.
هذا التجدد المستمر في الشكل هو طموح قزحيا ساسين، والجدّة في رأي “فرويد” شرط للمتعة. بل هي المتعة، يضيف: “رولان بارت”.
وهكذا شاعرنا يقودنا في أغلب قصائده ونصوصه الى متعتين ويطير بنا الى حلمين.
28- أغسطس – 2014