الأديب الأردني زياد عوده
منذ نكبة فلسطين عام 1948، وتشرد أهلها عنها، بل قبل ذلك بكثير وعلى أرض فلسطين ذاتها، انطلق نداء ” وامعتصماه” ملء أفواه النساء والأطفال، والبنات اليَتم، وهم يغادرون بيوتهم وأراضيهم تحت تهديد السلاح والرصاص ولكن لم يُلب نداءهم أحد، ولم يسمعهم زعيم واحد من زعماء العرب وهام الشعب الفلسطيني على وجهه، مشردا في أصقاع الدنيا، بلا أمل...
المستقبل أمامهم اسود، ولهذا تلقفتهم الخيام السوداء والمغاور، بعد أن كانوا يسكنون المنازل الفخمة ويقيمون في ربوع بلادهم الجميلة، التي كانت تشكل بالنسبة لهم جنة خضراء ثرية بالخير والخصب والرجاء….. فقد تحقق للصهاينه ما أرادوا من أحتلال فلسطين.
تكرر هذا في شهر حزيران عام 1967، يوم احتل الأعداء البقية الباقية من فلسطين في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، بعد أن أمعنوا فيهم قتلا وذبحاً، واضطروهم إلى مغادرة وطنهم، لتبدأ هجرة جديدة لم تكن تخطر على بال أحد… وخاصة أن العرب قد تحرروا من الغازي المستعمر، وراحوا يبنون بكل عزم وقوة للمستقبل، ولكن يبدو أن الأمور لم تكن في صالحهم، بسبب خلافاتهم التي أوقفتهم وسببت لهم هزيمه نكراء راح ضحيتها الشعب الفلسطيني المسكين. الذي ذهب ضحية الاخوان قبل الأعداء…. وها هي فلسطين تعاني، ونساء غزة والضفة يصرخن ويبكين بدموع من دم على احوالهن التي لا يمكن أن يتحملها أحد…
فقد أصبن في رجالهن وأطفالهن، ولا منقذ لهن من هذا الواقع الدامي… وكم مرة صرخن على امتداد سنوات طويلة: وامعتصماه…! ولكن صراخهن كان يذهب هباء في الفضاء ولا أحد يلبي النداء!
وقد عبر الشاعر العربي الكبير عمر أبو ريشه عن هذا الواقع المر ضمن قصيدة كتبها بعد نكبة 1948م، وحملت عنوان ” بعد النكبة” حيث يقول فيها هذة الأبيات المعبرة عن واقع الحال المؤلم:
أُمَّتي هل لكِ بينَ الأُمَمِ مِنْبَرٌ للسَّيْفِ أو للقَلَمِ
أتَلَقَّاكِ وطَرْفي مُطْرِقٌ خَجَلاً مِن أَمْسِكِ المُنْصَرِمِ
ويـكـادُ الـدّمـع يـهـمـي عـابـثـا ًبـبـقــايــا كــبــريــاء الألـــــــمِ
إلى أن يقول، وهذا بيت القصيد:
رُبَّ (وامُعْتَصِماهُ) انْطَلَقَتْ مِلْءَ أَفْواهِ البناتِ اليُتَّمِ
لامَسَتْ أَسْماعَهم لكنّها لم تُلامِسْ نَخْوَةَ المُعْتَصِم
أمــتــي كــــم صــــمٍ مـجـدتــهِ لـم يـكـن يحـمـلُ طـهـر الـصـمِ
وها هي الشاعرة فدوى طوقان ابنة الجرح الفلسطيني، تصرخ ملء فيها، وهي تقف على شباك التصاريح على الجسر الذي يربط الأراضي المحتله بالعالم الآخر، حيثُ أرهقها الانتظار وأحزنها منظر الناس وهم ينتظرون الفرج للخروج من السجن الكبير…
حيثُ تقول وهي تصف هذا الموقف المخجل:
لطمة تهوي على وجه الزحام :
(عرب، فوضى ، كلاب
ارجعوا ، لا تقربوا الحاجز ، عودوا يا كلاب)
ويد تصفق شباك التصاريح
تسد الدرب في وجه الزحامآه ، إنسانيتي تنزف ، قلبي
يقطر المر ، دمي سم ونار
( عرب ، فوضى ، كلاب ) !
إلى أن تصرخ قائلة بمرارة, وهذا بيت القصيد:
آه ، وامعتصماه !
آه يا ثار العشيره
صفحة 530- 531من ديوان فدوى طوقان
من قصيدة ” من صور الاحتلال الصهيوني” آهات أمام شباك التصاريح عند جسر اللنبي، وماتت فدوى طوقان وهي ما زالت تستنجد بالعرب، ولكن أين العرب؟
والغريب العجيب في الأمر، أن معظمنا لا يعرف قصة هذا النداء، الذي انطلق على لسان عربية مُسلمة آذاها علج من عُلوج الروم، وصرخت تستنجدُ بالخليفة العباسي المعتصم,، الذي جيّش الجيوش لأنقاذ هذة العربيه المظلومة… وتعميما للفائدة، رأيت أن أُقدم للقراء قصة هذا النداء الذي إستجاب له المعتصم وحقق نصرا كبيرا على علوج الروم، وقد أحسن الأُستاذ الدكتور أحمد الحوفي، أحد أبرز أساتذة اللغة العربية في القرن العشرين بمصر، بتسجيل هذة القصة كاملة في كتابه الذي صدر قبل أربعة عقود في القاهرة بعنوان “البطولة والأبطال”.
والمعتصم بالله، هو الخليفة الثامن من الخلفاء العباسيين، بويع عام 223هجري بالخلافة بعد وفاة المأمون، بنى مدينة سامراء أو سُر من رأى، فك الله أسرها وأسر العرق من المجرمين الغزاة… وحالُ العراقيين اليوم كحال الفلسطينيين يصرخون ” وامعتصماه” ولكن آذان الزعماء العرب صماء، فلا أحد يُجيب أو ينطق بكلمة حق…
وكيف لا وقد ساهموا في احتلال العراق مع الأمريكان وحلفائهم والكل يتساءل: لو كان المعتصم موجوداَ لاختلف الوضع كثيرا عما هو عليه الحال المؤسف والمزري في أعز قطرين عربيين تعرضا للاحتلال والقتل والذبح.
وفي الذكرى الخامسة لسقوط بغداد، قال ذلك الشخص الذي ساهم في تحطيم تمثال ” صدام” ليته كان حيا لأُقبل يده! كلام جاء بعد أن تآمرت الدُنيا كلها على العراق وقيادته وشعبه الذي يعاني الأمرين، على أيدي الطغاة من المحتلين ” وفئة منحرفة من أبناء البلد الخونه” الذين باعوا أنفسهم ووطنهم بالدولار وهم لا يمتون بصلة الى العراق العظيم!
ونعود الى الماضي, حيثُ تم فتح عمورية الواقعه في آسيا الصغرى،منطقة الأناضول بعد نداء تلك المرأة العربية في نفس الشهر فقد كتب الكتاب حول هذة الحادثة, ونظم الشعراء مئات القصائد حيث جئنا على مثالٍ لذلك في قصيدة رائعة للشاعر عمر أبو ريشة وكذلك للشاعرة فدوى طوقان… ونسجل هنا ما كتب الدكتور أحمد الحوفي حول حادثة المرأة العربية في عمورية في كتابه ” البطوله والأبطال” المطبوع في مصر….وقد كتبها بأسلوب قصصي مشوق! وهذه هي الواقعة كاملة كما جاءت في أكثر من كتاب من كتب التاريخ:
جلس الخليفة العباسي المعتصم بالله في قصره بسامراء وحوله جمع من حاشيته ورجاله، يتحدثون في شؤون السياسة تارة، وفي شجونِ من الحديث تارة, فيرنٌ حديثُهم في البهو رناتٍ تغُلظُ آناَ.
وهذا رجلُ عربيِ يُقبل من آسيا الصٌغرى، فيحفٌ الى لقاء الخليفة، ويستأذنُ فيؤذن لهُ، حتى يصل الي الخليفة فيُحييه، ويسأله المعتصم عن أنبائه، فيقول لهُ: يا أمير المؤمنين, كنت بعمورية فرأيتُ بسوقها امرأة عربيه مُسلمه مهيبة, تساوم روميا في سلعة, وحاول أن يغفلها , ففوتت عليه غرضهُ، فأغلظ لها فردت بمثله فلطمها على وجهها لطمة كادت تنخلعُ منها أسنانها، وتجحظُ عيناها, فصاحت في لهفةٍ وامُعتصماه.
فقال الروميٌ في سُخريةٍ: انتظريه حتى يجيء اليك على فرس أبلق وينصرك. عندئذٍ اربد وجهُ المعتصم، وبدا الجِدٌ في نظراته، وقطب الجالسون معه زتململوا في مجالسهم, كأنما نهشتهم حيات، واذا بالمعتصم ينظر الى ناحية عمورية من مجلسه قائلا في غضب: لبيك أيتُها المرأة الحُرة, لقد سمع المعتصم صياحك وندائك. ثم استشار جلساءهُ في فتح عمورية، فأشاروا عليه بفتحها، فأمر بتجهيز جيش في اثني عشر ألف فارسٍ.
سار المعتصم بجيشه الى عمورية, فلما بلغها حاصرها، وكانت منيعة الحصون، عالية الأسوار فألح عليها بالمجانيق والسهام، فلم تخضع، فاقترب بطلائع جيشه الى السور، وشدد الضرب, فبرز له رجلٌ من كُوة، وطلب أن يبارزهُ عشرون فارساً، فقال المعتصمُ: من له؟ فتسابق القادة, والمتطوعون كلٌ يطلب أن يُنازله, فأذن المعتصم للمتطوعين.
برز للعلج الرومي واحد من المتطوعين العرب يتبعهُ تسعة عشر مقاتلا، ثم جعل الرجُلان يتطاعنان ويتضاربان، وكانت خُدعة من العربي عندما رجع القهقرى، وأخذ الرومي يتبعهُ، ليدركه بضربة من الخلف، واذا بالعربي قد استدار في سرعة البرق, ورمى الرومي بوهق فوقع في عُنقه، وركض حصانه فسقط الروميُ عن فرسه, فعاجلهُ بضربة فصلت رأسه.
عندئذٍِ كبر المسلمون، وأن الروم أوجع أنين, ولم طالت اقامتهم صاح المعتصم فيهم صيحة عنيفة: اجعلوا النار في المجانيق، وارموا الحصون رميا متتابعاً، ورموا بها الحصون والأسوار، فانكمش الرُوم وبعدوا عن الأسوار، فاقتحمها المسلمون، وجاسُوا خلال المدينة الى أن استسلمت عموريةُ، وسلمت حصونها.
وبعد أن هدأ الناسُ, أمر المعتصم أن تُحضر المرأة التي استغاثت به, فلما حضرت وجدها مُشرقة الوجه، باسمة الثغر، فسلمت عليه، ودعت له بأن يُبقيهُ الله عونا للإسلام ومجدا للعربِ.
ويبقى السؤال قائما: هل يتكرر في هذا الزمان ما فعله المعتصم بالله؟ بعد الهوان والذل الذي أحاطا ببلاد العرب والمسلمين!!