احتفلت زحلة مساء السبت في 16 أغسطس بازاحة الستار عن تمثال الشاعر جوزف الصايغ في حديقة الشعراء في زحلة، أعقبه مباشرة حفل خطابي في فندق قادري الكبير، بدعوة من بلدية زحلة – المعلقة والكلية الشرقية ومجلس قضاء زحلة الثقافي وأصدقاء الشاعر الصايغ، وحضور حشد كبير من الشعراء وأهل الفكر والأدب والفن والاعلام، من مختلف المناطق اللبنانية.
استهل اللقاء عريف الحفل الصحافي أنطوان أبو رحل بالقول: التمثالُ الحقيقي، قبل أَن يكونَ من إزميلٍ وحجرٍ، هو في قلوب الناس، وفي محبَّتهم. وتمثال جوزف صايغ، الذي أَزَحْنا الستار عنه لهُنيهةٍ، هو في القلوب … قلوب عشّاق شعره، وقادري أَدبه، وأنتم منهم. لذلك، فقد استحقَّ. استحقَّ لأنه كبيرٌ ولا كبرياء. استحقَّ لأنه أَحبَّ زحلة، فأحبَّته زحلة. أحبّها بشعره فأَبدع، وأَحبَّها بنثره فجدَّد. فشعره “بذاتِ الصَّولجان”، دارَ به العالمَ معه. غنّاها، وتَغنّى بها، في واشنطن، بجامعة مريلاند، وفي نيويورك، عاصمة عواصم العالم، في أفخم فنادقها التاريخية؛ وفي باريس، في قصر قصور الثقافة العالمية، قصر منظمة الاونسكو؛ وأخيراً – بل أوَّلاً- على ضفاف هذا البُردونيِّ الطّافحِ بالشعراء والجاري بقصائدهم. فحيثما كان، كانت زحلة معه، وحيثما كانت زحلة كان العالم: “فأنا زحلةُ حبّي، حيثما كنتُ كانت، أو تَكنْ، كان الوجودُ!
وأمّا نَثرُهُ، فمقالاتُه المتطرِّفة بحب لبنان ملأَتِ الصّحفَ، وهزَّت أوساط المثقّفين، ونَقَلَ عُنفَها ودَويَّها معه إلى المؤتمرات العالميّة التي شارك فيها، وفي محاضراته ومداخلاته في جامعات باريس، وفلورنس، ولاكورونيا، وشيكاغو، ومالطا، وبكّين … وأوجزها، في أكثر من ألف صفحة، في كتابه الأساسي- قُلْ التأسيسي- بعنوان “الوطن المستحيلّ”، ممّا جعل أُنسي الحاج يقول عنه: “إنه صليب لبنان”. لهذا، لجميع هذا، فقد استحّق تقدير زحلة ولبنان.
وأضاف: مستحقٌ، يا صديقي، نَعَم، لأنك اشتغلت بالكلمة، ولأَنَّ اشتغالك بها كان على نحو مُغايرٍ، ومبتَكَرٍ. فلقد تفرَّدتَ، بين شعراء جيلك، بثقافة- وخصوصاً بحساسة – غربيَّةٍ بحكم اغترابك، وشرقيةٍ بحكم انتمائك، فأغنيتَ التصوّر العربيَّ برؤى عالمية، وطعَّمتَ الإحساسَ الشرقيَّ بأناقة ورهافةٍ تَحْكُمُهما عقلانيّةٌ مُستَنيرة.
غمَسْتَ قلمكَ، يا شاعري، في مِدادٍ آخر. لِبَيانٍ مُختَلف وللُغة مُغايرة. لغة تَسْتَشْرف المستقبل، أَمَدَّك بهما إغترابٌ عن هاتين أكثرَ من ستين عاماً، طائفاً في لغات العالم وحضاراته. مستّحقٌ لأَنَّ اغترابك كان، هو الآخر، مُغايراً. لم تغترب وراء جاهٍ، أو مال، أو اتّجار، وإنما نَزَحْتَ وراء آفاق متجددة، وطلباً للعلم والمعارف فقط، ولا غير. تقول: ما تغرَّبتُ افتتاناً بعُلىً/ أو بمالٍ، لستُ عن حبي أَحيدُ/ إنما خلف الذي واهمني/أنه ما شئتُهُ، أو ما أُريد”. وتغرَّبتَ عن زحلة، لكن دون أن تغترب عنها. وفي ذلك تقول: “كلُّ يومٍ لنا رجوعٌ إليها/ولنا الرايُ خافقاتٍ عليها/ما رأينا الى جمالٍ وهمنا/غيرَ ذاك الجمالِ في عينيها/غتربنا، ولم، نُفارقْ، كأَنّا/إغتربنا عنها، ولكن إليها”.
وختم: ليس جوزف صايغ شاعراً من الهُواة، هواةِ الشعر الكُثُر. لقد كان الشعر، بالنسبة إليه، تجربةَ حياةٍ ووسيلةً لتخدير مَضَضٍ وجوديٍّ يُعانيه، هو ذاك الغَصَص الناجمُ عن معضلةٍ صميميةٍ عنده، كانت الّلغةُ الشعرّيةُ الوسيلةَ المؤهَّلةَ لمُداناتها- ومُداواتها- هي تلك المجابهةُ المفجعةُ بين الكائن والكون. بين إنسان يَعي، ويَشعر، ويتألم، وعالم أَصَمّ: كونٍ كائن… مجَّردُ كائنٍ فحسب. بين سائل يُلْحِفُ بالسؤال، ومسؤولٍ صامت لا يُجيب. فحاول أن يكون شعرُهُ بعضَ ذلك الجواب.
صديقي الكريم المكرَّم اليوم… تفيك زحلة، ويفيك وطنُكَ بعضَ ما لك بإقامة هذا التمثال وهذا الاحتفال. غير أني لا أرى في ذلك مِنَّةً عليك، بل إكبارٌ لسيرة، وآقتداءٌ برؤية جَمَعَتْ ما قيل عنه لا يجمع: عقلانيّةّ الغرب الى إشراق الشرق. فكنتَ، بذلك، رائداً من روّاد تلاقح الحضارات وتكامل الثقافات، فجسَّدتهما، وهجستَ باكراً بعالم يتمخَّض عنه العالمُ اليوم، ومنه تتكون ملامح الغد. تكريم الشاعر جوزف الصايغ هو من أيام زحلة المشهودات.
المعلوف
ثم ألقى رئيس بلدية زحلة – معلقة المهندس جوزف دياب المعلوف كلمة أبرز ما جاء فيها:
“من يتصفّح الإرث الثقافي “لشاعرنا الزحلاوي”، كما يحلو أن يقال عنه، يتبيّن غزارة الإنتاج وتنوّعه إن كان شعراً أو نثراً. ويستكشف فيه محطات خالدة في سيرته الأدبية على مدى أكثر من ثلاثة أرباع القرن إن كان في “الندوة اللبنانية” أو في العديد من المحافل والصحف اللبنانية والأجنبية، إن كان في لبنان أو في العاصمة الفرنسية باريس، حتى غدا شاعرنا بامتياز “زحلاوي في باريس، وشبه باريسي في زحلة” من ضمن توزيع إقامته ونشاطاته شتاء في باريس وصيفا في زحلة.
بالمختصر إن الإرث الثقافي لشاعرنا الكبير يمثّل حقبة مجلّة في تاريخ الأدب والشعر الزحلي واللبناني المقيم والمغترب في القرن الماضي يمكن الرجوع إليه لمعرفة أدق التفاصيل . وما قيام مجلس بلدية زحلة- معلقة وتعنايل، بالتعاون مع الكلية الشرقية ومجلس قضاء زحلة الثقافي وأصدقاء الشاعر، بالدعوة إلى إزاحة الستار عن تمثاله في حديقة الشعراء (الممشية) بجانب كبار الشعر والأدب الزحلي إلاّ عربون محبة وتقدير لشاعر زحلي سطّر بقلمه أساس خلوده في عالم الشعر والأدب.
الأب سابا
وألقى الأب سابا سعد، رئيس الكلية الشرقية في زحلة، كلمة استهلها بالقول: “من فوق، من بين حنايا الكلّيّة الشرقيّة، وزوايا ملاعبها، ومقاعد صفوفها، ومن بين أبنائها لمع نجم الشاعر جوزف صايغ ابن زحلة الأبية، زحلة الكرامة والقداسة، موطن الشعر والأدب…”. وأضاف: “جوزف صايغ شاعر رصد الجمال حيث صادفه، فتغنّى به، ولم يترك زاوية من زواياه إلاّ وطرق أبوابها، ولأن زحلة جوهر الجمال دعا أبناءها الميامين إلى إيلائها العناية اللازمة حتى تبقى عروس المدن.
حين تقرأ جوزف صايغ، أو حين تتعرّف إليه، تكتشف انفراده، بين كبار شعراء جيله، بفرادة التجربة وطرافة التعبير، فلقد حاول الجمع، في شعره بين الشرق والغرب، وهو أمر كان في تلك الفترة يعتقد أنه محال، غير أنّه استطاع، وبسحر كلمته المعهود، أن يجعل هذا اللقاء العجيب يتمّ في شخصيّته، وهكذا التقت اللغة العربيّة في تمام أصالتها بالحضارة الغربيّة في أوج جموحها العصرانيّ. لقد استوطن جوزف صايغ باريس، وتوطّن شعره أجواءها وتراثها وثقافتها، غير أنّه لم ينس مدينته التي أحبّها حتى الجنون”.
ثم انتهى بالقول: “يتميّز جوزف صايغ برؤيا وطنيّة وسياسيّة خاصّة، إنّه ذو شخصيّة رؤيويّة تطلّعيّة، استشرف المستقبل فتحقّقت معظم توقعاته. إنّ أمثال هذا الإنسان لا يمكنهم أن يعيشوا في مثل هذا “الوطن المستحيل”، لأنّه سيمضي حياته متألّماً متوجعاً. جوزف صايغ ليس شاعراً وناثراً فحسب، بل هو مقاوم، ثائر ضدّ الميول السياسيّة والدينيّة والمصلحيّة، هو مناضل من أجل بناء الوطن الحقيقيّ، وطن القانون والمؤسّسات، وطن الاستقلال عن الأنانية…”
الدسوقي
والقى الشاعر صالح الدسوقي قصيدة عصماء بعنوان “آب الهزار” لاقت تجاوبا عميقاً من الجمهور، حيّا فيها زحلة “كعبة الشعر” وتناول بعضاً من حياة الشاعر وقد جاء فيها:
“يا شاعـراً أَسكَــرَ الدُنيا وأقلقهــا/ونَضِّرَ العشقَ حتى صارَ مُعتقدا/أبدعتَ “كولين” رمزاً للجمالِ وقُــلْ/للفــنِّ معجـــزةً.. خلَّـدتهـا أَبَــدا”.
بخاش
وألقى كلمة زحلة ومجلس قضاء زحلة الثقافي جان بخاش، صاحب جريدة “زحلة الفتاة” وأبرز ما جاء في كلمته: “ها أنت اليوم يا عزيزي الشاعر تعتلي هذه القاعدة وحولك كوكبة من الشعراء الزحليين، أمدّك الله بالعمر الطويل بعدهم، أماجد عايشت بعضهم وعاصرت بعضهم الآخر، تتفيأ معهم ظلال هذه الباسقات الحاملة أثقال السنين الطوال الطوال. ألا يحق لنا أن نتساءل مع صديقك الكبير سعيد عقل- الغائب الحاضر في كل وقفة عزّ ومجد بزحلة ولبنان- كيف يمكن “أن تطلّ على الناس بوجه من معدن ولفتة من نحاس، وأنت الذي هو قلب، كيف تصبح حجرا؟”
وأضاف: “أدباؤك الزهر الشموس” والصايغ هو إحدى تلك الشموس، أراد ان يستعين بشمسه فانعطف إلى باريس بكل حرارة إيمانه وتقديره. ولا عجب فهي وطن الإنسان بكل عظمة رؤاه وإبداعه وأنواره. قرأناك مراراً تقول: إن الشعر، بالنسبة إليّ هو الهرب من الموت. أعتقد أنك اليوم بعد دخولك إلى حديقة الشعراء مخلّداً قد توقفت. ذلك أن ليس لا زحلة ولا وطنك هما من يخلدانك. بل أنت خلّدت نفسك بنفسك، وفي هذا ذروة العطاء للذات وفيه ذروة الإبداع بين الآخرين. وها إنك اليوم تنزل في حديقة الشعراء، حتى راجي الراعي كان شاعرا. شاعراً في نثره وفي قريضه نشره على صفحات جريدة أبيه وخاله، فتوزعت بواكيره ونفثات عبقريته”.
وأنهى بخاش بالقول: “نحن أكيدون أنه لن ينتهي معك المشوار. هذا الخصب الندي في الشعر والنثر، في الأدب والحب والمجتمع والفلسفة والسياسة. هو مسار لا يستوعب بسهولة. خاصة وفوق ذلك الثورة للثورة. هذا أعظم ما فيك. حركة دائمة، لا تتعب عبر قلمك الناري المسنون، ولا تهدأ ولن تتوقف الا ربما على قاعدة هذا التمثال الذي أعادك الينا، وأعادنا إليك في وقفة التجاذب والتلاقي، وقفة راسخة كما أفكارك ومشعة كما انوارك.
الهاشم
وألقى الشاعر جوزف الهاشم قصيدة رائعة لاقت تصفيقاً شديداً من الحضور، قال فيها:
“وأنْتَ يا صائغَ الماساتِ يا علَماً/مِنْ صيْدِ زحلةَ منْ أبنائِها النُجُبِ/على يديكَ الصروحُ الشُمُّ باذِخَةٌ /يسمو البيانُ بها، والعلْمُ لمْ يَخِبِ/في أيِّ أُفْقٍ مِنَ الإبداعِ خُضْتَ بهِ/حقَّقْتَ ما نالتِ الأقلامُ مِنْ أرَبِ/بريشةٍ طيَّبَتْ بالتِبْرِ مبْسِـمَهَـا/لَوْ لمْ ترصِّعء جَناحَ الشِعرِ لمْ يَثِبِ/ ورُحْتَ تخْتَرِقُ الأجواءَ منْطَلِقاً/كالنَسْرِ إنْ شاخَ لمْ يهرَمْ ولمْ يَشِبِ”.
رزق
والقى الوزير والنائب السابق المحامي إدمون رزق كلمة بليغة أبرز ما جاء فيها: “في يوم رفع الستار عنه تمثالاً، أتينا زحلة نحيـيه مثالاً، نكرم قيماً جسدها، ومدينة أطلعته فأعزّها. هنا مقام الشعر والأدب، محراب الوطنية، منبت الفروسية، محط الإيمان والرجاء، و”أعظمهنّ المحبة”! جئنا نشهد أن لا “وطن مستحيلاً”، لبلد فيه زحله، مسقط عظماء الكلمة، منجبة الأعلام، مقيمين ومنتشرين، وكلهم يكرّم العشيّة، مع شاعر “آن – كولين”، حامل الوحي من وادي العرائش، الى عاصمة النور”.
السفير الجديع
وتسلم الصايغ باقة ورد وقصيدة من صديقه سفير المملكة العربية السعودية في الرباط الدكتور عبد الرحمن الجديع جاء فيها:
“يا شاعراً أسكرَت أنغامُه الأَدَبا/هذي قصائدُكم قد رُصِّعتْ ذهبا/من زحلةٍ، مِن رُبىً بالشِّعر دافقةٍ/أَقبلتَ تُهدي إلينا الطِّيبَ والطَّرَبا/باريس من شِعركم تا لله قد قَبَسَتْ/حتَى أضاءتْ به أبراجُها شُهُــبا/هذي جواهرُكم يا صائغُ انتظَمتْ/قوافياً فاضَ منها الحُسْنُ وآنسكـبـا/تالله، هل مِن لقاءٍ في زُحَيلتِـنـا/نستلهمُ الشِّعرَ أَو نستطيبُ العِنَبـا!”.
كلمة العائلة
ثم ألقت باسكال ترزي كلمة باسم عائلة المحتفى به شاكرة، فأتت على جزء من حياة العائلة، وخاصة والديه وزوجته واولاده الذين تقدموا بالشكر والتقدير من المحتفلين.
كلمة المحتفى به
وفي الختام القى الشاعر المحتفى به الدكتور جوزف الصايغ كلمة استهلها بالقول:
“لا يخلّد إلا الخالدون؛ وزحلة مدينة خالدة. لا يُجِلُّ الكلمة إلاّ الكُلماء؛ وزحلة ربيبة كلمة ومن أربابها. ولا يتعشّق الجمال إلاّ مَن اصطفاه الجمال، وزحلة مصطفاة جمال، رائدة من روّاده، وإزميل من أزاميل إبداعه. قلْتُ: زحلة مدينة خالدة !. ذاك أنّ مَنْ يدخل بيت الكلمة يخلدْ بخلودها، فالكلمة بيت الله، وزحلة دخلت هذا البيت، دخلته من بابه العريض. دخلته شعراً ونثراً، وأعلت اقبابه حيثما حلّت في الدنيا “.
وأنهى بالشكر والامتنان الى جميع الذين ساهموا في هذا التكريم، وخص كلاً من الخطباء بكلمة عبر فيها عن بالغ عرفانه وتقديره قائلاً: فأنتم الكلمة التي نحتفل بها اللّيلة وفي كل ليلة؛ أنتم أحجار الأساس في لبنان الصامد وأنتم منائر العربية وبلغاؤها…وفي فؤادي، أنتم ملءُ محبّتي.ث
ثم أقيم عشاء تكريمي للشاعر في رحاب فندق قادري…
******
كلام الصور
1- المشاركون في الندوة
2- إزاحة التمثال عن تمثال جوزف صايغ
3- الشاعر والأديب جوزف صايغ يلقي كلمته في الاحتفال
4- المشاركون في الندوة
**********
بالاشتراك مع aleph- lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com