غريبًا يأتي الإنسان إلى الدنى، وغريبًا عنها يرحل، بأزاهير صبر ذابلة، ولا مطر.
غريبًا يمضي في مهاجر الضجر، ووحيدًا، يفتّش في البال عن ذكرى حلم سليب ولا ملل…
وتسجّل الأنا ضياعها في سجلّ المفقودين، ماهيّةً وكينونةً، في الما قبل والآن والما بعد، أوانَ وقفةٍ مع الذات لم تعد تحتمل التأجيل.
ينظر إلى المرآة فلا يرى وجهه، بل وجه إنسان غريب عنه، يتكلّم فلا يسمع صوته بل صدى صوت غريب، يتكلّم بلغة غريبة عن حكايات غريبة، ويعزف ألحانًا غريبة، فتتوه الحواس في غفلة الشكّ، ويتلاعب الفكر على حبال السهو والفهم.
قد لا تكون الحياة الا اللحظة، فقط اللحظة، وكلّ ما سواها لهوٌ في متاهات العقل، فيكون الوقوع بين السكينة والهزيمة، حيث تستسلم النفس لغربتها عن الدين والدنيا…تائهة في خرائب الوجود، تبحث في خبايا الوجوه النائمة والواهمة، عن كونٍ، عن أصلٍ، عن ربًّ يئس من بنيه وهجر. تتوكّأ على كرامة مرمّمة، وعلى كتفيها صرّة من خيبة، وفي جيبها فتات من ذكرى. وتمضي وحيدة وغريبة، تسائل ذاتها تعاتبها: لمَ يا نفسُ لوّامة أنتِ؟! أمّارة بالقهر؟!! واهنة تهينين وتُهانين؟ فيجيبها الطين: دعيها تنهال على ذاتها جلدًا. لقد يبّستني حين فرّغتني من كلّ ما يحييني…من حبٍّ من فرحٍ من حنين. مذ عرفَتْ أنّها طوّافة في فسحة من العدم. صارت دوّامة سؤل وأنين، وجعلتني بحّاثة عن قبر في بئر من الوسنِ.
هي النفس عند عقد قرانها بالمعرفة تعي ازدواجيّة تغرّبها في وجهين: اغتراب عن الذات، واغتراب عن الآخر.
فليست أقسى أنواع الغربة تلك التي يكتشف فيها المرء كم هو بعيد مع من تربطه بهم وشائج القربى والمنبت، لأنّه يستطيع أن يحلّق بالروح الى عوالم بعيدة، ويسافر في مراكب الحلم إلى الميناء المشتهى، بل أقسى أنواع الغربة تلك التي يكون فيها اغتراب الذات عن الذات، أكان ذلك طوعًا أم اختيارًا…وأيًّا تكن الإجابة عمّا إذا كانت الغربة هي من تكبّل الإنسان حين اقترانها بالمعرفة، أم هو من يسلّمها نفسه حين يُكثر من أسئلة يعرف سلفًا ألّا إجابات عنها، ليعيش المرء الغربة الكبرى الحتميّة، إذ يبحث عن ذاته ولا يجدها، فيعلم أنّه أضاعها ليبدأ رحلة التيه في مرابع العبث.
يعيش بين الجموع وحيدًا، ويحلّق في عوالمه، فيغدو في عيني الناظرين إليه مجنونًا، وفي عيني نفسه منفاه بعيدًا، يبحث عن سعادة قصيّة، لا يعلم أنّها في هيكل نفسه، ويبحث ويبحث ويبحث ويقضي الأيام في سفر على سفر…
وتعيش النفس معاناة تغرّبها في حنينها الدائم، لأنّها فرع من أصل عبثًا تفتّش عنه في أمجاد البطولة أو مراتع الألوهة .
فتمضي وحيدة، تشرّع صدرها للريح، للأيام، للدّمَن، وتفتح يدها للحياة، للآتي من الزمن. يدور بها وتدور معه، جوّالة جوّابة في عدم. وتعود في المسايا والعشايا مع الخيبات، مع الوهم والوهن.
وحيدة تمضي النفس ومعها الحبّ، وحده يقيها من الغرق في بحور من النّتَنِ، ويقينها على دروبٍ من أشواك الشكِّ والفِتنِ.
وحيدة تمضي النفس، ومعها الصمت، يصرخ من وجع على كرامة تحمي ضميرًا حيِيٍّا عانى مرّ الجوع والعطش.
وحيدة تمضي، كعصفور جريح كُسر جناحه، تعلّم الرقص على إيقاع أغرودة الوجع.
وحيدة تمضي، كخروف أضاع رفاقه وضلّ طريقه وصمّ أذنيه عن لحن نايٍ لراعٍ همّه تولّه في زيادة العدد.
هكذا، غريبًا سيكمل الإنسان دورة حياته، يؤرجحه مصير لعوب بالآتي من الأيام، وقلق مستبدّ متأبّد في أكواخ اللحظات وضمائر الماضي إلى أن ينفصل التوأمان ويعود كلٌّ منهما إلى دياره: الوصل فردوس موعود والفصل بينهما أرض وسماء.