المحامي شارل ي. أبي صعب
من المتعارف عليه قانوناً ان المحاكمة تجرى وفقاً لعناصر مكونة اساسًا من اثباتات ومستندات يمكن الركون اليها لتكوين ملف شامل عنها بحيث تتبع الاصول القانونية اللازمة استناداً الى نصوص خطية او كتابية وذلك للتثبت من وقائعها ومجرياتها، والظروف التي خلقت تلك الوقائع لتؤلف في النهاية قضية يحكم بها المرجع القضائي المختص والصالح للنظر بها.
لكن محاكمة السيد المسيح جرت في ظروف مختلفة في ظل غياب اي اثبات قضائي او وثائق رسمية يمكن الرجوع الى مضامينها للتأكد من ان المسيح حصل على محاكمة عادلة ومنصفة ادت الى صلبه، بعد المرور بمراحل قانونية لازمة للقول باكتمال العناصر الكفيلة باعطاء صورة واضحة وشاملة عن تلك المحاكمة التي حدثت بصورة عشوائية واعتباطية الآّ ان الحدث الديني الاعظم ان السيد المسيح صلب وقام في اليوم الثالث وقد خلّص بصلبه وتضحياته النفوس الضائعة والعطشة الى من يرحم ويرأف بارواحها فداءً عنها وعن العالم اجمع.
المحامي نبيل طوبيا
من هذا المنطلق والمنظار القانوني الفريد وضع المحامي نبيل طوبيا كتابه المعنون: “دعوى محاكمة يسوع المسيح من منظار القانونيين”، مستهلاً افكاره وتطلعاته بعدة تساؤلات واستفسارات ما زالت حتى اليوم مصدر تنبؤات وترجيحات بحيث يُعتبر المحامي طوبيا أول رجل قانون ينشر باهتمام بالغ وجدية رصينة كيف كان يجب ان تتم محاكمة السيد المسيح بشكل قانوني وهل استند اولئك الذين حكموا عليه بالصلب حتى الموت الى وثائق قانونية رسمية ألفت وكونت ملفاً واضحاً لمجريات تلك المحاكمة ؟؟؟
إلا أن المحامي طوبيا تمكن بفضل حنكته ومعرفته الواسعة واطلاعه الثاقب على الشؤون القانونية وخبرته اللامحدودة في مجال التشريعات واصولها، من ان يخلق محاكمة قانونية أو ” قوننة” ان صح التعبير محاكمة يسوع ووضعها في اطارها القانوني الصحيح والسليم ويتساءل في مقدمة كتابه وجعلنا نتساءل معه:
هل يمكن اعادة تكوين ملف الدعوى التي انتهت بصلب يسوع المسيح بعد انقضاء حوالي 2000 سنة على ذلك الحدث الديني والتاريخي ؟؟
الجواب ان الزمن لم يحفظ لنا وثيقة رسمية عن تلك الدعوى والمحاكمة كي نستطيع الرجوع اليها للتثبت من وقائعها ومجرياتها ولكن من الممكن وفي غياب اي اثبات قضائي جمع العناصر الاساسية الموزعة في الاناجيل الاربعة المعترف بها كنسياً للوصول الى الحقيقة التاريخية. فالعناصر المذكورة يكمل بعضها البعض الآخر هي كفيلة باعطاء صورة امينة عن تلك المحاكمة الاعتباطية التي جرت.
اعترافات السيد المسيح
وتجدر الاشارة الى ان الاناجيل الاربعة التي وضعت كدستور اساسي حفظت اقوال واعترافات السيد المسيح وما شهدته تلك الحقبة من تطورات دينية سبقت صلب يسوع المسيح، بحيث لا تعتبر هذه الاناجيل بمثابة محاضر ضبط من الناحية والوجهة القانونية او دراسات تاريخية، فالذين كتبوها لم يكونوا اصلاً من علماء القانون او من المؤرخين الثقاة بل شهود ايمان وشهود حقيقة كما يسميهم المحامي طوبيا، عملوا على نشر حياة المسيح واعماله وتعاليمه التي تلقوها وبشروا بها في انحاء العالم وذلك عندما كان لا يزال يعاصرهم شهود عيان آخرون يمكنهم نقض اقوالهم فيما لو كذبوا.
وقد تطرق المحامي طوبيا الى مسألة مهمة ما زالت مصدر ابحاث عديدة الا وهي الكفن الذي لف به جسد المسيح والمحفوظ في ” توران” ( تورينو) والذي ما يزال يحمل منذ 20 قرن آثار جراح السيد المسيح، جراح جسده الذي اصيب بها جراء الضرب والجلد ووخز الشوك وحمل الصليب ودق المسامير والطعن بحربة.
إلا ان هذه الآثار الباقية على الكفن جعلت منه دليلاً مادياً على صحة وصف الانجيليين لآلام يسوع وصدق روايتهم عن كيفية موته وصلبه بحيث شكل هذا الدليل وثيقة فريدة ودعماً صادقاً لاقوالهم.
التوقيف أو تسليم الذات
قسم المحامي طوبيا كتابه الى عدة فصول متتالية بدءاً من البواعث والأسباب التي أدت الى صلب يسوع، التوقيف أو تسليم الذات وهو فعل يذكّر بالذين نصبوا العداء ليسوع ولماذا؟؟
طبعاً هم اولئك الذين تجسمت فيهم الاحتكارية اليهودية والمتزمتون الذين افرطوا في التمسك بحرفية الشريعة والتشبث بالفرائض الشكلية والطقوس الخارجية كما يدعوهم المحامي طوبيا.
اضافة الى وضعه فصلاً شاملاً ودقيقاً عن الاجراءات التمهيدية التي تمت لمحاكمة يسوع: هل هي محاكمة عادلة؟؟ أم هي جريمة قضائية ؟؟؟ ومن القى القبض عليه ؟؟؟ ومن اصدر الامر بذلك ؟؟
ومن هي السلطة التي اصدرت الامر بالقبض ؟؟؟
افترض البعض ان تكون مذكرة قد سطرت وسلمت للتنفيذ من السلطات المحلية اي اليهود. لكن الرأي السائد في ذلك العصر يدعي ان الأمر بالتوقيف في الجرائم المعاقب عليها بالاعدام يخرج عن صلاحية القضاء المحلي ويدخل في سلطة الرومان اي الوالي الروماني وهنالك اجماع على عكس ما ذكر آنفاً كون الرومان تركوا لأهل المقاطعات المحتلة تولي ادارة شؤونهم الذاتية والداخلية وفقاً لعاداتهم وتقاليدهم وقوانينهم على ان يؤدوا الجزية للقيصر ويتجنبوا الاخلال بالأمن. فكان المرجع الصالح لمحاكمة المجرمين القضاء اليهودي، إلاّ أن صلاحياته لا تتعدى العقوبة القصوى لأن تنفيذ هذه العقوبة كانت تحتاج الى موافقة الوالي الروماني المفوضة اليه السلطة المطلقة بحق اعطاء الحياة أو الموت. وكان الاسرائيليون قد فقدوا هذا الحق منذ أن وقعت اليهودية تحت سيطرة روما في السنة السادسة لولادة السيد المسيح.
القوانين المعمول بها
كما أشار المؤلف طوبيا الى القوانين المعمول بها زمن يسوع وهي كناية عن نصوص مدونة في تثنية الاشتراع والتلمود، والى النظام القضائي السائد في تلك الحقبة والمؤلف من 3 هيئات قضائية:
1- محكمة من 3 قضاة لكل مجموعة أو قرية لا يتجاوز عدد رجالها 120 رجل؛
2- سنهدرين صغير مؤلف من 23 قاضٍ لكل مدينة باستثناء اورشليم. -3- السنهدرين الاكبر في اورشليم ينظر في القضايا الخطيرة والمنازعات الدينية والسياسية ومحاكمة الانبياء الكذبة والاحبار والانحراف الديني…
ويظهر المحامي طوبيا من خلال تفنيده للتقسيم القضائي ان هذه المحاكمة لم تراعِ الأصول المتبعة في تلك الفترة ولم تتقيد بالاختصاصات المكانية ولا الزمنية، واثبت بصورة واضحة واكيدة ان سير المحاكمة وتاريخها حدثت واستناداً الى الاناجيل، ليلة الخميس وصلب يسوع يوم الجمعة وان مدة المحاكمة وفقاً لرأيه انتهت في جلسة واحدة قبل صياح الديك مؤكداً انها حصلت في جلسة واحدة فقط، حيث وجهت الى يسوع عدة تهم منها نقض الهيكل والادعاء بأنه ابن الله مما يثبت عدم مراعاة اية اصول وحقوق من جراء المحاكمة السريعة والقصيرة .
وهنا تجدر الاشارة في هذا السياق ان طوبيا ابدى عدة ملاحظات مهمة حول المحاكمة استهلها بالقول: “انها اقصر محاكمة خطيرة جرت في التاريخ”.
وذلك لمخالفتها الاصول المتبعة في تلك الفترة من حكم الرومان وسبب ذلك يعود الى ان السنهدرين خلافاً على عادته بالتمسك بحرفية الشريعة، توسع في التفسير واكتفى باقرار يسوع دون تعزيزه بالادلة التي نصت عليها التشريعات المفروضة.
فالاقرار حسب المفهوم القانوني هو اعتراف خصم بواقعة او بعمل قانوني مدعى بأي منهما عليه ويكون قضائياً اذا تمّ امام القضاء اثناء النظر في نزاع يتعلق بهذه الواقعة أو العمل ، ويكون غير قضائي اذا تمّ على غير الوجه وعندئذٍ يثبت وفق القواعد العامة في الاثبات وهنا يعود لسلطة المحكمة في تقدير الادلة والحجج المتوافر والقوة الثبوتية للاقرار.
لا ادلّة ولا شهود
وبعد قراءة شاملة ودقيقة لاجراءات تلك المحاكمة والتي تطرق اليها المحامي طوبيا بكافة أوجهها والنصوص القانونية والتشريعات التي كان يجب ان تطبق للقول بأن يسوع حظي بمحاكمة عادلة، يظهر من متابعة سيرها انه لم تحترم فيها أبسط الاصول الملازمة للدعاوى الجزائية المتبعة في القانون الروماني والذي كان يوجب تقديم الاثبات عن كل تهمة، اما في قضية يسوع فلم يسمع شهود ولا قدمت ضده أي أدلة لوضعها قيد المناقشة. ولم يقف مع المتهم من يمثل الدفاع اذ لم يجرؤ احد الدفاع عنه ولا كلف أحد بهذا الواجب الجوهري.
بل أكثر من ذلك، ومن الأصول الجوهرية التي لم تتبع في المحاكمة انه كان على القاضي الاعلى رتبة ان يكون محاطاً بمستشارين حتى ولو لم يشتركوا في اتخاذ القرار كأصحاب سلطة قضائية. وهذا امر لم يراعَ ايضاً فقد غاب المستشارون عن محاكمة يسوع امام بيلاطس ولم يدعهم للاستشارة برأيهم.
يمكننا الجزم وباختصار كلي ان بيلاطس سيّر المحاكمة كما اراد واصدر الحكم بحق يسوع كما ابتغى واشتهى، همه الاوحد كان صلبه على خشبة، فلم يجرؤ احد على معارضته …
من هذا المنطلق، يدعو المحامي طوبيا الى اعادة المحاكمة ووضعها في اطارها القانوني الصحيح للقول مجدداً بأن يسوع لقي محاكمة علنية عادلة ادت في نهاية المطاف الى تبرأته من التهم الكيدية التي وجهت اليه والاثباتات على ذلك متعددة اذا ان محكمة يهودية انعقدت في اورشليم في بداية الثلاثينيات للبت مجدداً في قضية يسوع برئاسة الدكتور فلادسيل اصدرت حكمها الذي قضى بأنه بريء وان ادانته كانت من اعظم الاخطاء التي ارتكبت …وفي هذا السياق ايضاً، ومن ضمن نشاطات “دار الحقوق” ” La maison du Droit” في معهد حقوق باريس قام سنة 1949 جاكنو ( (Jaqueno احد علماء القانون والفرنسيين بالتدقيق في محاكمة يسوع فأفتوا بأن المخالفات الشكلية العديدة التي ارتكبها السنهدرين في تلك المحاكمة تجر الى بطلان الحكم التي اقترنت به.
فهل تبقى محاكمة يسوع مصدر تجاذبات بين الحقوقيين انفسهم كما قال الشاعر الفرنسي شارل باغي: هناك قضية نحن متأكدون تمام التأكيد بأننا لن نتفق حولها هي قضية يسوع.
بدأت محاكمة يسوع قبل ان يشرع فيها … وسوف تبقى مستمرة الى ما لا نهاية.
وهل تشرع هذه المحاكمة من منظار القانونيين والذين على رأسهم المحامي نبيل طوبيا، وفقاً للقانون الواجب اعتماده للوصول الى النتيجة المتبغاة الا وهي تبرأة يسوع من حكم بيلاطس الجائر ؟؟؟ وتطبق معه بالتالي روح النصوص الحقيقية المفروض الأخذ بها استناداً الى وقائع ثابتة ودامغة !!!
******
(*) كتاب من الحجم الوسط يقع في حوالي 60 صفحة – يتضمن مراجع باللغتين العربية والانكليزية.
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress com