د. ناتالي خوري غريب
أن تكون لبنانيًا، يعني أن يطالك داء الاغتراب وهمّه وشتاته، وكأنّه لا يكفي اللبنانيّ أن يعاني مرّ الغربة في كونه ضيفًا في غربته، هو ذلك العابر المنسيّ في وطنه وغير وطنه، لأنّ إقامته بين أهله وعائلته في ربوع بلاده تصبح ترفًا. والترف حلم لا يتنعّم به الجميع.
أن تكون لبنانيًّا مغتربًا في بعض دول غرب أفريقيا تحديدًا، يعني أنّك مواطن درجة أخيرة، فلا طيران دولتك يعبر بك إلى مقرّ إقامتك الجديد حيث تسترزق وترزق عائلتك بإرسالك جني تعبك إلى بنيك وتاليًا المستفيد الأكبر وطنك الأم، ولا شركة طيران تحمل معايير السلامة التامة تقبل أن تنقلك، لأنّك رقم خاسر في ميزان الربح والخسارة، ليتعيّن عليك أن تدبّر نفسك بما تيسّر من شركات طيران، صمّام أمانها الوحيد”اتّكل ع الله وحظّك وامش”.
أن تكون لبنانيًا مغتربًا في بعض دول غرب أفريقيا تحديدًا، يعني أنّك اسم بلا رصيد، معرّض للإلغاء والشطب من سجلّات الأحياء، لأنّك مشروع ضحيّة طيران، تعترف بك حكومتك وتهرع إلى لملمة جثمانك تحت عنوان “حرام كان جايي يعيّد مع عيلتو”، وانتهى البيان، وماتت الخبرية بعد أن تكون مادة إعلاميّة حيّة لنشرة واحدة .
أن تكون لبنانيًّا متغرّبًا في بعض دول غرب أفريقيا تحديدًا يعني أنّك تعيش على ما يقدّر لك الله في حال أصابك أي نوع من أنواع الأمراض وبخاصة تلك التي تباغتك، وأيّ الأمراض لا يباغت؟ فلا مستشفيات ولا مختبرات.
وكأنّه لا يكفي اللبناني المغترب في غرب أفريقيا كلّ هذا المصاب، فجاء الضيف المميت”فيروس أيبولا”، ليضيف الشتات على الشتات، والقلق على القلق، والمعاناة على المعاناة، رزق مجبول بالدم المهروق المحمول على الأكفّ، وبيوت صارت أساساتها رمال مكوّمة على حاّفة موج. أمّا الهرب أو عفوا العودة، فيعني الوقوع في فخّ الذلّ والهوان على أبواب الوطن، وأهون الأفخاخ سقوط.
هذا الضيف القاتل،”إيبولا” “ Ebolaالكلّ أمامه سواء، الكلّ أمامه ضعفاء، لأنّه لا يرتشي، ولا يرتوي من قليل الضحايا .
لا وقفة مع الذات تقصيه، ولا تجاهله ينهيه، ولا صلوات العباد فرادى وجماعات تثنيه.
يأتيك من عالم الغفلة، ويصبح الخوف منه هو الوباء، ويستحيل الوباء خوفًا وانتظارًا للمعلوم الآتي بما لا يجهله عاقل أو يعقله جاهل.
هو الوباء أو سمّه المرض أو الداء ولا دواء له بعد.
قد يكون الوباء رمزًا من رموز العدالة الكبرى على الأرض الدنيا لأنّه لا يفرّق بين الصغير والكبير، الغنيّ والفقير، السعيد والتعيس، العالم والجاهل، الحاكم والمحكوم، المؤمن وغير المؤمن.
أمام الوباء الجميع في انحناء، والعودة الى التاريخ لأخذ العبر. وكلّ كان اعتبر أنّ عصر الأوبئة رحل بمساعي العلم والعلماء، واندحر عالم العقاب والأساطير واندثر. ليسخرَ من الجميع الزمنُ الذي يُظهر في ضحكته سرَّ التجاعيد التي يخبّئ فيها حكمته. من تراه يفكّك رموزها والخوف يعطلّ كلّ خلايا الفهم والعقل؟
ولا يبقى إلّا خياران لا ثالث لهما غير الموت-الحيّ المنتظر؛ أوّلهما الصبر بما يحتّمه من تسليم، وثانيهما الانتظار بما يلازمه من قلق.
ويكبر الرهان على حسن البرهان في صوابيّة الاختيار بين قرارين لا بدّ من اتخاذ واحد منهما.
واللحظة ضنّانة خيارات، فيها سرعة الحسم ضرورة، وصلابة الثبات مرارة.
والصبر أبعد من تكيّفٍ وأكبر من ذكاء وأكثر من “مفتاح الفرج”، الصبر فكر قاتل للزمن قبل أن يكون الزمن قاتل فكر، يحييه وعي الانتظار.
والانتظار فنّ توشية الساعات بجرعات أمل تكشح كابوس الحاضر بالحلم، لأنّه يصبح الواقع الوحيد.
قد يكون الزمن هو الوباء الأكثر فتكًا لأنّه تلك الآله التي تتحكّم بالإنسان، إذ تضعه طوال حياته في مختبرات القلق من الآتي، فتصبح متعة الزمن في قبول لعبته والنزول إلى ساحات التحديّ، وكلّ لعبة تخلو من الخطر لا تستجلب فرحة النصر على الزمن.
هي الحياة، وأيّ الحيوات تخلو من خطر؟!
داعش ولعبة الأمم؟ الشرق وتهافت الأنبياء؟ الموارد ولعبة السرقات؟ السلطات وقطع الرؤوس؟
هو عالم اختّل توازنه، عالم يحوجه الكثير من الانسجام ليصوغ نسيج التناغم بعيدًا من علامات آخر الأزمنة. عالم هجرته الرحمة وهربت منه الآلهة من زمن بعيد. والنول بأيدي الجنون، سيّد العالم الجديد.
29- 7- 2014