“نَـتَـذكَّـر الدكتور أَيُّوب تابت”

الشاعر هنري زغيب

كانت السيارة تخترقُ الشارع حين أَوقفَها الشرطيُّ فبادر سائقُها مشيراً إِلى الرجُل في المقعد الخلفي: “الدكتور أَيوب تابت رئيس الدولة”. وما هَمَّ الشرطيُّ بالاعتذار حتى بادره H.Z. 2  (1)رئيس الدولة: “ما الأَمر”؟ أَجاب الشرطيّ: “سيّدي فخامة الرئيس، هذا الشارع في اتجاهٍ واحدٍ وسائقُكَ جاء عكسَ السير” فأَجاب الرئيس فوراً: “إِذاً نَظِّمْ محضر الضبط وأُهَنِّئك لحفاظك على القانون”.

هذه واحدةٌ من رواياتٍ عدّة عن هذا الرئيس كما وردَت في كتاب الدكتورة شيرين خيرالله “نتذكَّر الدكتور أَيوب تابت” الصادرِ هذا الأُسبوع باللغة الإِنكليزية عن “منشورات درغام” في 156 صفحة حجماً وسطاً، مزوّداً باثنَتَي عشْرة وثيقةً أَصلية، وبمجموعةِ صُوَرٍ فوتوغرافية نادرة عن الرئيس اللبناني الذي اشتُهر باستقامته وحزْمه وإِصراره على تطبيق القانون إِبّان رئاسته التي لم تَدُمْ سوى أَربعة أَشهر وثلاثة أَيام (18 آذار-21 تموز1943) واستقال لأَن سلطة الانتداب الفرنسي رفضت اقتراحَه بإِشراك اللبنانيين الـمغتربين في انتخاب المجلس النيابي.

الكتاب من ثلاثة فصولٍ قصيرة: الرجل، السياسي، الكاتب، ومن ملحقٍ قصير عن شخصية الرئيس ومآثره في الحُكْم.

وفي الكتاب، على ضآلة صفحاته البيوغرافية ووفرة صفحاته الوثائقية، نكتشف شخصيةَ رئيسٍ لبناني عنيدٍ بآرائه الصائبة، صارمٍ في تطبيق القانون، ما دفعه إِلى استقالته مراتٍ عدةً من مناصبه الوظيفية والوزارية والرئاسية. ولأَنه عَلْمانيّ كان أَولَ لبناني شطَبَ الدين عن بطاقة هويته.

من فَراداته أَنه كان يأْتي كلّ يوم من بيته في محلة القنطاري ماشياً إِلى مكتبه الرئاسي في السراي بدون مواكبة رئاسية ولا بهرجة ولا صفارات سياراتٍ تشقُّ له الطريق بزَجْر الناس وإِهانتهم. وكان يترك سيارة الرئاسة في السراي حين ينتهي الدوام ويتنقّل بعد الظهر بسيارته الخاصة يقودُها بدون سائقه الموظّف الرسميّ ويملأُها بالبنزين من راتبه الخاص لا من مال الدولة. وفي عهده أَنشأَ أَول مختبرٍ في لبنان لفحص الدم، ووضع دراسة للاّمركزية الإِدارية، وضمَّ مؤسسة الأَمن الداخلي والشرطة إلى وزارة الداخلية، وصمّم تنظيماً علْمياً لوزارة الزراعة.guilaf ayoub tabet

قبل دخوله الحُكْم نادى بأَن اللبنانيين يرفضون الحكْم العثماني لكنهم غير قادرين بعدُ على الحكْم الذاتي لذا طالب بحماية فرنسا، وحين انتُدبت فرنسا على لبنان أَخذ يعمل لاستقلال بلاده بعدما بات أَهلها على استعداد لتولّي الحُكم. وقبلذاك هاجم فيصل العراق لأَنه بنى علاقات سرية مع حايـيم وايزمن الذي نجح سنة 1917 مع الوزير الإِنكليزي بلفور في استصدار ما سمي “وعد بلفور” بإِعطاء اليهود جزءاً من أَرض فلسطين، إِثْر معاهدة سايكس بيكو سنة 1916 بتقسيم المنطقة بين فرنسا وبريطانيا.

وفي تلك الفترة نفسها من الحرب العالمية الأُولى نشطَ أَيوب تابت من أَجل لبنان فأَسّس في نيويورك “لجنة تحرير سوريا ولبنان” يوم7 أَيار1917 مع أَمين الريحاني نائبَ رئيس وجبران أَمين المراسلات بالإِنكليزية وميخائيل نعيمة أمين المراسلات بالعربية.

ولا نُغلق الكتاب قبل أَن نقرأَ عن أَيوب تابت كاتباً وشاعراً، له مقالات عدّة في الصحُف بين لبنان ونيويورك، وله كتُبٌ في الشورى، وفي النظام الأَساسي لدولة لبنان، والتنظيم الإِداري للُبنان الكبير، وله قصيدةٌ زجليةٌ طويلةٌ عنوانُها “الوُدَيّ” كتبَها سنة 1936 لكنه لم يرَها مطبوعةً في كتاب لأَنها صدَرَت بعد أَشهُر من وفاته مساءَ 14 شباط 1947.

في تاريخ الرؤَساء الذين حَكَموا لبنان، يبقى أَيوب تابت بين أَقصرهم حُكْماً وأَعمقِهم حكمةً، والحُكْمُ في لبنان تَلْزَمُهُ الحكْمة أَولاً قبل التحكُّم.

********

إذاعة “صوت لبنان” – برنامج “حرفٌ من كتاب”

اترك رد