من كوز تموز إلى آب اللهاب

الأب كميل مبارك

تكثر في هذه الأيام شكاوى الناس، مسؤولين ومواطنين، من الشحّ في المياه، وتكثر الآراء والتصاريح حول حسن التدبير وأساليب التوفير كي لا يقع ما لا يرضى عنه ولا به جميع pere-camille-1الناس، عنيت العطش والجفاف واليباس، فينعكس مأساة تظهر على وجوه الناس وعلى محاصيلهم الزراعية، فالسماء لم تُمطر شتاء ما يكفي لمؤونة أشهر الصيف، مما زاد في القلق والخوف من الأعظم.

هذه هي الحال، والحديث عنها ملأ وسائل الإعلام، وشغل الصّالونات وشغّل “السيترنات” وحنّت المياه إلى الحنفيات، ناهيك عن الخزانات، غير أن الناس، مسؤولين ومواطنين، كما قلت، تاهوا عن حقيقة الأسباب التي جعلت من آب اللهاب يدفع الناس إلى استسقاء كوز (إبريق صغير من الفخار) تموز، حتى ولو كانت الماء فيه غالية حرارة وكلفة. وإن شئت أن أسوّق الأسباب الماديّة والروحيّة أقول:

– لا شك أن انحباس المطر سبب وجيه وأساسي، وقد يكون لهذا الانحباس سبب غير مناخي، ولعلّ الناس بحثوا في هذا السبب وصلّوا كي يشفع إيليا النبي بهم ويفكّ حبس السماء، وتعود الغيوم إلى القيام برسالتها، عطفاً على الينابيع ورحمة بكل غرسة تشتاق الندى والطّلّ إذا ما الوابل اعتكف.

– علمتنا الأيام أن القرش الأبيض لليوم الأسود، فلماذا لم نتعلم أن زمن الفيضانات وتراكم الثلوج، هديّة من السماء أُعطيناها زمناً فاستفاد منها البحر هدراً، وساداتنا المسؤولون يتناكفون من يموّل هذا السرّ، ومن يتاجر بالماء حدثاً سياسياً والتزاماً إقليمياً، همُّهم ألا يقال على ألسنة الناس إن هذا أو ذاك نجح في تنفيذ هذا المشروع أو ذاك. ناهيك عن تلهيهم بتصريف فعل كسب ونهب ولا يصحّ هذا التصريف إلا إذا حذفوا منه: هو، هما، هم، أنت، أنتما، أنتم، واستقرّ على أنا ونحن، وهكذا ترتوي الجيوب وتُستر العيوب.

– يقول المثل الشعبي: “ما متّ ما شفت مين مات؟” فلو حوّلناه إلى “ما شربت ما شفت مين شرب؟” وبهذا التحويل ننظر إلى الدول الصحراوية أو تلك التي يضربها الجفاف منذ مئات السنين، وتدبّرت أمرها لكي تستمرّ الحياة فيها للناس والحيوان والنبات، حتى لو دفعتها الأيام إلى تحلية ماء البحر، والبحر عندنا يحاذي شاطئنا من الشمال إلى الجنوب، ولكن الأمر عندنا شبه مستحيل لأن أولئك الذين احتكروا البحر واحتقروا القانون والناس، واسترضوا الحيتان والأخطبوطات، وابتلعوا البحر برمله وصخره ومائه وملحه، منعوا العقول من أن تحلم بتحلية مائه، لأن حيتان الجشع ابتلعوا الملح وتحلوا بمال الناس الذين يرغبون بارتياد البحر استماعاً.

كل هذه المحاولات، حقيقية أو وهمية، تذكرني ببئر يعقوب وتلك المرأة التي طلب منها السيّد المسيح أن تعطيه ماء ليشرب، ثم ختم حديثه معها قائلا: لو كنتِ تعرفين من هو الذي يطلب منكِ الماء وهو قادر أن يعطيك ماء الحياة الذي لا ينضب. وكذلك أختم كلامي وأقول: لو كان ساستنا وتجارنا ومدبّرونا وعيالنا وأبناؤنا وموطفونا جالسين على حافة أي بئر، أتراهم يعرفون من هو ذاك الذي قد يطلب منهم الماء ليشرب؟ أم أنهم سينادون يوماً كما نادى ذاك الغني طالباً أن يأتي لعازر ويبلّ طرف إصبعه بالماء ليرطّب له لسانه.

لهم أقول: لو سمعكم لعازر فلن يجد بسببكم نقطة ماء في بلادكم بلاد الماء، يحملها إليكم ويرطّب بها لسانكم.

اترك رد