د. رفيف رضا صيداوي
حملت الرواية العربية منذ انطلاقها الهمّ القومي، غير أن أشكال التعبير عن هذا الهمّ خضعت لتحوّلات الرواية نفسها، والمتناظرة مع تحوّلات المجتمع العربي. فأيّ دور لعبته الرواية في توحيد العرب الذين باعدت بينهم المصالح الاقتصاديّة وفرّقتهم السياسة؟
حملت الرواية العربية منذ انطلاقها في مطلع القرن العشرين الهمّ القومي، الكاشف عن اهتمام المثقفين العرب بقضايا الإصلاح السياسي واللغة العربية والتراث وغيرها. فكانت رواية “الرغيف” لتوفيق يوسف عوّاد (1939)، من الروايات المتقدّمة فنّياً (بحسب شروط الإنتاج الروائي آنذاك) التي تناولت البؤس العربي في ظلّ السيطرة التركية العثمانية، وما ترتب عن ذلك من مقاومة عربية تجلّت في حركة التحرّر العربية ونضال العرب في سبيل الحرية والاستقلال. إذ تميّزت بواكير النتاج الروائي العربي بأنها “روايات أفكار” أكثر منها “روايات تخييل”، بحسب توصيف الناقد العربي فيصل درّاج. ويشهد على ذلك مثلاً، قول فرح أنطون: “سيكون اهتمامنا في الرواية بالمبادىء والأفكار مقدّماً على الاهتمام بالحوادث والأخبار”.
واستمّر هذا الخطّ التعليمي الإصلاحي – إذا ما جاز التعبير- إلى أن بلورت الرواية أشكالها وأساليبها الفنّية الخاصة، فلم يعد البعد القومي محمولاً في خطاب روائي يعبّر بشكل فجّ عن حلم الوحدة العربية، عبر استخدام عناصر البناء الروائي، لتحميلها المخزون الفكري السياسي لمفهوم الوحدة. ففي سياق مسارها نحو تكوين خصائص منقطعة عن الماضي، عبر إيلاء أهمية أكبر للجانب الفنّي، والتخلّص من النبرة الخطابية في السرد والتكلّف في الإنشاء، ومن سلطة الكاتب الكامنة في تلاعبه بالشخصيات والأحداث الروائية وفق رسالته المباشرة..إلخ، وانحراف النصّ الروائي شيئاً فشيئاً عن مرجعيته الخارجية، بالاستناد إلى عنصر التخييل الذي يحرّر الملفوظات من وظائفها التداولية وإحالتها المرجعية المباشرة، في هذا السياق إذن، مضى البعد القومي في الرواية العربية يأخذ أشكالاً ومضامين متنوّعة. فالصراع بين الشرق والغرب، مثلاً، بوصفه أحد تجلّيات هذه القومية، شغل الأدبيات العربية القديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ومن تلك الأدبيات “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”(1834) لرفاعة الطهطاوي، و”الساق على الساق” (1855) لأحمد فارس الشدياق. إلا أنه- أي هذا الصراع- بات يكتسي معانيه من خلال تطوّر البنى السردية الروائية، بدايةً مع “حديث عيسى بن هشام” (1907) لمحمد المويلحي، ثم مع “عصفور من الشرق” (1938) لتوفيق الحكم، و”قنديل أم هاشم”(1944) ليحيى حقي، ورواية سهيل إدريس “الحي اللاتيني” (1953)، ثم روايات مثل “موسم الهجرة إلى الشمال” (1966) للطيّب الصالح، و”الأشجار واغتيال مرزوق” (1973) لعبد الرحمن منيف…إلخ، وصولاً إلى روايات العقدين الماضيين.
لم تعد عناصر القومية تتجسّد روائياً في الدعوة المباشرة إلى الوحدة العربية، بل تجسّدت في سياق بحث المثقفين عن هوياتهم تارةً – وإن اختلفت أسباب هذا البحث ونتائجه بين روائي وآخر- وفي شعور الشخصية الروائية تارة ًأخرى بأنها مغتربة عن شيء أو عن الآخرين، سواء أكان هذا الآخر يمثّل مجتمعاً مختلفاً كالمجتمع الغربي مثلاً، أم المجتمع عينه الذي تنتمي إليه الشخصية، أو طبقة اجتماعية معيّنة، وصولاً إلى الأسرة أو الأصدقاء، أي المحيط المباشر بشكل عام.
وللتعبير مثلاً عن هزيمة العرب في العام 1948 أو في العام 1968، لم يعد ثمّة ضرورة للعودة إلى نكبة فلسطين أو هزيمة حزيران على المستوى الحكائي أو الموضوعاتي، بل يكفي استثمار البطل الإشكالي الذي يعاني تمزّقاً بين قيمه وتطلّعاته من جهة، والقيم الاجتماعية السائدة في محيطه من جهة أخرى، للتعبير عن هذه الهزائم. كما استُثمر هذا البطل لاحقاً، والذي استُبدل أحياناً بشخصيات محورية لا تمّت إلى البطولة بصلة، ولاسيّما مع اتّجاه البناء الروائي إلى مزيد من التعقيد، في بناء خطاب روائي عربي مناهض للطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة والإثنية والجهويّة. خطاب يدعو إلى تحرير المجتمع من الاستغلال والاحتكارات واللامساواة والظلم. فأرّخت الروايةُ نفسُها المسارَ الاجتماعي العربي في الوقت الذي كانت تؤسّس فيه وعياً مناهضاً لما تؤول إليه أحوال الوطن العربي، وتُبلور مفاهيمها الخاصة حول العروبة والقومية، مستبقةً الفهم المتطوّر لهما، والذي يشير إلى أن العروبة ليست مسألة تحزّب بل إنها تعبيرٌ عن انتماء ثقافي حضاري قائم بالقوّة قبل أن يكون قائماً بالفعل. فالرواية كجنس، وبقدر ارتباطها بذات كاتبها، هي غير منفصلة عن الواقع الاجتماعي الذي أنتجها. ولذا أشار الفيلسوف والناقد الفرنسي الروماني الأصل لوسيان غولدمان إلى أن الأثر الأدبي ” ليس الأثر الأكثر ذاتية والأكثر اجتماعية في آن، بل إنه الأكثر ذاتية لكونه الأكثر اجتماعية والعكس صحيح”.
ولعلّ الرواية، وبفضل طبيعتها كجنس أدبي مرن يسمح بالتحرّك في فضاءات شاسعة، باتت من الأجناس الأدبية الأكثر تجسيداً لتلك الجدلية، والأكثر قدرة على بناء خطاب موازٍ للخطاب السائد. ففي عصر ظلامي عرف الكثير من الفتن والحروب، بنى الفنّان الإيطالي دانتي أليغييري، المنفي من بلاده بين 1308و1321، عالماً بديلاً من عالم الواقع، من خلال أثره الأدبي الخالد، “الكوميديا الإلهية”. وقد ضمّنه رؤيته الخاصة للعدالة والخير، متجاوزاً ذلك نحو تحكيم عدالته الخاصة، متلاعباً بتوزيع الناس وموْضعتهم بين جنّة ومطهر وجحيم، مستنسباً وضع الطغاة والقتلة في الدائرة السابعة من دوائر الجحيم التسع، والخونة في الدائرة التاسعة، وهكذا دواليك.
العروبة في طيّات الفنّ
لقد كتبت الروايات العربية بلغاتها مثلاً، صراع العرب مع السيطرة العثمانية (“الرغيف” لتوفيق يوسف عواد)، وصراع العرب مع الغرب الاستعماري ومع الاستعمار الداخلي(“المصابيح الزرق”1954 و”الشراع والعاصفة”1966، حنّا مينة)، والتحوّلات الاجتماعية(“بين القصرين” و” قصر الشوق” و”السكرية” 1956 -1957، نجيب محفوظ)، وصراع العلم والإيمان(“أولاد حارتنا”1967، نجيب محفوظ)، والمأساة الفلسطينية (“رجال في الشمس” 1963″، “العائد إلى حيفا”1969، غسان كنفاني)…إلخ، وصولاً إلى “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور( 1994-1995)، التي وازت بين سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر وضياع فلسطين في القرن العشرين، وكشفت بنية العلاقات المعقّدة التي ولّدت أزمة الإنسان العربي سواء في القرن الخامس عشر أم في القرن الحادي والعشرين، و” قطعة من أوروبا”(2003) التي كشفت فيها عاشور أيضاً عن واقع الانفتاح العربي المشوّه على الحداثة في التاريخ المعاصر. فيما نهض خطاب أحلام مستغانمي في ثلاثيتها(“ذاكرة الجسد”1988/ “فوضى الحواس”1997 /”عابر سرير”2002) على تحدّي الصمت المحلّي والعربي إزاء المأساة الجزائرية، واستلهمت رشا الأمير في روايتها “يوم الدين”(2003) لغة التراث لإحياء فصاحة اللغة العربية وبلاغتها، وولّد علي بدر في “مصابيح أورشليم رواية عن إدوارد سعيد”(2006) حقيقة روائيّة مناهضة للحقيقة التي يجسدها الخطاب السياسي والثقافي الإسرائيلي الفعلي والمنظومة الفكرية الصهيونية…إلخ.
أحيا الروائيون المغيَّبَ والمنسيَّ في ذاكرتنا العربية في أزمنةٍ تصادر الذاكرة، وقادت المتلقّي العربي عموماً، أياً كان انتماؤه القطري، نحو التماهي بشخصيات الرواية وكأنه يتعرّف إلى أحواله الخاصة ويشاهد مأساته الذاتيّة، الوطنيّة والقوميّة، سواء تمثّل الفضاء الروائي في “الشاطىء الشرقي للمتوسط حتى أعماق الصحراء”( كما في رواية “شرق المتوسط”1972 لعبد الرحمن منيف)، أم في الإسكندرية(كما في رواية “ميرامار” 1971، نجيب محفوظ)، أم في بيروت (كما في روايتيْ “طواحين بيروت”1969 لتوفيق يوسف عوّاد، و”دنيا” 2006 لعلوية صبح.. وباتت مخيمات لبنان (كما في روايتيْ “باب الشمس”1998 لإلياس خوري و”الطنطوريّة” 2010 لرضوى عاشور) مكاناً لإعادة بناء الذاكرة الفلسطينية وتضاريس فلسطين المحتلّة، وباتت الرواية مكاناً لتأمين استمرارية هذه الذاكرة، وبالتالي، ديمومة الأمكنة.
لقد استعارت هذه الروايات وغيرها من الواقع المرجعي أسماءً وأمكنة وتضاريس حقيقية، ليس بقصد الإيهام بواقعية أحداث الرواية وحكاياتها بل بقصد خلخلة هذا الواقع ونقضه ونفض الغبار عن المسكوت عنه، والإعلان عن وجع الإنسان العربي، في أيّ بلد أو قطر عربي كان. وهو ما جعل هذه المدن تجسّد ذاكرة جماعية عربية واحدة.
القاهرة أو بيروت أو الجزائر، أو بغداد، أو دمشق…إلخ، كلّ مدينة من هذه المدن أومن سواها أصبحت رديفة لوطنها الأم وكذلك للوطن العربي الكبير. فبات بمقدور صورة القاهرة بعد الانفتاح أن تنقلنا إلى أيّ مدينة عربية في عصرنا الاستهلاكي. وبات بمقدور أيّ حرب في فلسطين أو الجزائر أو بيروت أو العراق وغيرها أن تنقلنا إلى أيّ حرب من الحروب العربية التي تمعن تفتيتاً وطحناً في شعوبها، وبات مذاق الغربة المرّ نتيجة هذه الحروب، المتمثّل في روايات مثل “الحفيدة الأميركية”(2009) و”طشّاري”(2013) لإنعام كجّه جي، أنموذجاً عربياً وليس عراقياً فقط.
ربما لهذه الأسباب وغيرها، اعتبر الناقد العربي فيصل درّاج في كتابه “الذاكرة القومية في الرواية العربية: من زمن النهضة إلى زمن السقوط”، أن الرواية قامت “بتوحيد المجتمع العربي قومياً مرّتين: مرّة أولى وهي تبرهن عن قومية النصّ الروائي، كأن تكتب المصرية رضوى عاشور عن “الأندلس” وهي تهجس بفلسطين، أو أن يكتب السعودي عبد الرحمن منيف عن العراق وهو مقيم في دمشق، ومرّة ثانية وهي تتحدث عن ” قومية الجماهير العربية”، بعيداً عن سلطات تلفيقية الشعارات والممارسات صيّر الالتزامُ القوميُ الروائيَّ مؤرخاً نوعياً يسجل ما يقول به المؤرخون التقليديون ويتدارك ما لا يستطيعون التصريح به”.
هكذا التقت الروايات على تحرير المجتمع من كلّ مساوئه، وعلى تجاوز الطوائف والمذاهب والإثنيات، عبر حثّ القارئ العربي على إثارة الأسئلة وتحليل الواقع تحليلاً يسمح له بمناهضة شروط تخلّف مجتمعه، من موقع عروبي حريص على تقدّم هذه الأمة. فبتنا وكأننا أمام رواية عربية تعكس أهمية الثقافة في توحيد العرب بعدما عملت السياسة على تفريقهم، وبعدما باعدت بينهم المصالح الاقتصاديّة، ولاسيّما أن الكتابة- والقول للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر- “هي طريق من طرق إرادة الحرية”، وأنه لا يوجد “قصة جيّدة واحدة غايتها خدمة الاضطهاد، وقصة جيدة واحدة كتبت ضدّ السود أو ضدّ العمّال أو ضدّ الشعوب المحتلّة”.
********
(*) مؤسّسة الفكر العربي – نشرة افق