مِنْ أَفْضلِ هواياتي قراءةُ التَّاريخ وسِيَرِ القادَة والمُلوك، ومِمَّا لفتَ انْتباهي وانتباهَ الكَثيرينَ ربَّما، هو سُقوط المَمالِك والامبراطوريَّات بعد عزٍّ دامَ لسنوات وأَجيال، فحاولْتُ أَنْ أَجدَ القواسِمَ المُشْتركَة بين غالِبيَّةِ الَّذين كانتْ سقطاتُهم وَخيمة. وهنا تراءَى لبالي شخصُ المسيح وكأَنّي به يقولُ لي: قارِنْ لتعرفَ أَكثر وتعرف بدقَّة. وهكذا تجمَّعت عِنْدي بعضُ أَسبابِ الضُّعْف بعد القوَّة والذّلِّ بعد العزَّة، أَذكرُ منها ما يلي:
– الغطْرسة واحتكار النَّجاح وعدم الاعتراف بِما قامَ به الَّذين سبقوهُم في الحكْمِ والتَّدْبير. فكانَ الواحدُ مِنْهُم يتأَلَّهُ مُعتبِرًا أَنَّه هو سيِّدُ التَّاريخ، فما كان قبله لا قيمة له في مراحل البنْيان وما يفعلُه هو سيبْقى إلى الأَجيالِ القادِمَة، ناسِيًا أنَّه سيزولُ كما زالَ سابِقوه وسيدول كما دالوا.
– اختيارُ المعاوِنين أَو المساعدين أَو الحاشِيَة، فغالِبًا ما كانَ اختيارُ الكِبار يقعُ على مَنْ لا يملكُ من الصَّلاح والخبْرةِ والمعرفة ما يجعلُ أَخطاءَ الكبير مَسْتورَة، لا بل كانَ هؤُلاءِ المختارونَ يزيدونَ بسوادِ سيرتِهم سوادَ أَعمال ذي السُّلطان ويُظهرون عُيوبَه للنَّاس، لأَنَّ عُيوبَهم سبقتْ اختيارَهم ولم يَشَأ الجالسُ في الأَعالي أَنْ يرى هذه العُيوب. فالتَّعامي عن أَخطاء الحاشِيَة والمقرَّبين، مهما بلغت من دركات الفساد، وعَدم الاصغاء إلى نُصْحِ المخلِصين الغَيورين على سمْعَةِ القيّمين كما على سمْعة المؤَسَّسة وإبْعادهم، لئَلَّا يستمرُّوا في إيقاظِ ضمائِرهم المخدَّرة. تمامًا كما فعل اليهود حين قرَّ رأْيُهم على قتْلِ لعازَر الَّذي أَقامه المسيح منْ بين الأَموات، لكيْ لا يكونَ شهادةً على قُدسيَّةِ المسيح.
– إبْعادُ مَنْ يخالفُهم الرَّأْيَ من دائِرةِ أَعمالِهِم وأَحلامِهِم لأَنَّ الغَيْرةَ أَكلتْ وَعْيَهم وباتوا يرَوْنَ في كلِّ عاقلٍ ذي رأْيٍ حَكيمٍ سديد، عدوًّا أَو منافِسًا، فكرِهوه لأَنَّ النَّاسَ أَحبُّوه، وحاوَلوا تَحْجيمَه أَو تقْزيمَه لأَنَّ الله خلَقَه كبيرًا وهكذا رآهُ النَّاسُ واعترفوا به.
– عدمُ اكتراثِهم للسمْعةِ، أَكانت حسنةً أَم سيِّئَة، وبالتَّالي سوءُ تقديرِهِم للأَشخاصِ الَّذينَ يرغبونَ فيهِم، فيُغمِضون أَعْيُنَهم عن عَوْراتِهم، معتبرينَ أَنَّ أَلْسنةَ النَّاسِ أَساءَتِ الحكم، وهم وحدهم يرَوْنَ الفضْلَ الذي لا يراه النَّاس.
– معالجتُهم للأُمور المُسْتَعْصِيَة بالتَّكاذُب وإغْفالِ التَّفاصيل، همُّهم تَغْطِيَة الخطأ بالكلام المَعْسولِ الَّذي يُرْضي النَّاسَ فيُسْكِتُهم عن الإدانة، عملًا بالقَوْلِ المأْثور إنَّ الذُّبابَ يَحومُ حَوْلَ العَسَل أَكثر ممَّا يحومُ حَوْلَ الخلِّ. وهكذا يعتقدون أَنَّ النَّاسَ قد نَسَوْا سيِّئاتِهم وسيِّئَاتِ مساعِديهم، في حين أَنَّ النَّاسَ لم يَنْسوا بل غَلَبَ النِّسيانُ على المسؤُلين وحدهم.
– الظلم المقصود وأَحيانًا غير المقصود لِمَنْ لا يسْتأْهِلُ ثقيل الأَحكام النَّابِع من كَيْدِ الحكَّام، أَو من إصْغائِهم إلى صغارِ النُّفوس، فيقعون في الشَّرِّ المَلْموس.
وأَفَقْتُ من محاولات البَحْثِ هذه وتساءَلْتُ: ماذا جاءَ المسيحُ ليقولَ لي في هذه المَعْمَعَة من جهالةِ العقولِ وعتمة القلوب واصفرار الوجود. وهنا ضاءَت أَمامي، كما البرق في ظلام اللَّيْلِ، كلمةُ المعلّم الأَوْحَد وتردَّد صداها في كياني: مِن هذا يعرف العالم أنَّكم تلاميذي إذا كان فيكم حبٌّ لبعضكم البعض. وتراءَتْ صُوَرُ ملك المجد لعيني بالمقارنة مع سلاطين هذا العالم.
هو الله أَخْلى ذاته ليتَّخذَ صورة العبد، هو الكبير الذي جاءَ ليَخدُم لا ليُخدَم، هو الذي غَسَلَ أَرْجُلَ مساعديه، هو. هو. هو. لذلك مملكته لن تزولَ لأَنَّها بُنِيَتْ على المحبَّة وليس على العدائيَّة والأحقاد ورفض الخير. وعدتُ إلى ملوك الأَرض وذوي الرِّئاسات فلمْ أَجِدْ للمحبَّةِ في قلوبِهم مكانًا، ولا للخدمة أَثرًا ولا للتَّخلِّي عن ملَذَّاتِ هذا الدَّهْرِ طريقًا ولا ولا ولا، فأدركتُ سببَ الخراب الذي قرأْتُه في كُتُبِ التَّاريخ وتوقَّعتُ الخرابَ الأَقْسى لِما أَقرأُه اليوم في واقعِ الحياة التي غلَبَتْ عليْها كثرةُ الإثْمِ فجفَّتْ محبَّةُ الكثيرين.