القصيدة التي ألقيتُها في ملبورن، بعد حفل إزاحة الستار عن تمثال البطريرك الطوباويّ مار اسطفان الدويهي، وأثناء العشاء الرسمي الذي قُدّم فيه كتاب “البطريرك اسطفانوس الدويهي من قمم إهدن إلى قمم القداسة” باللغتين العربيّة والانكليزية، بقلمي وكريمتي الأستاذة ربى الدويهي سركيس، وذلك بدعوة كريمة من الصديق الكبير أنطوان حربيّة وشقيقته سيلفانا:
علّي جبيناً، لكيما تُدْرِكي الشُهُبا
فكم هنا لاعباً بالسيفِ، قد لعِبا!
يا إهدنَ السحرِ من وحْي الاله، فقدْ
ما بين وادٍ وتلٍّ شاهِقٍٍ كَتبا
وقال: أنتِ هِي الفردوسُ، من شجرٍ
ومن جِبالٍ تباهتْ في السما قِبَبا…
تفّاحُ لبنانَ من خَدّيكِ لوّنَه
ووحيُ ريشتِه ما هانَ، أو تعِبا…
وفيكِ من نُخْبةِ الأطهارِ كوكبةٌ
همُ الكواكبُ والأقمارُ فوق ربى…
وللدويهيِّ في التاريخ ملحمةٌ
إذا فتحتَ كتاباً، شعشعَتْ ذهبا…
منارةُ الشرقِ، لا بل قصّةٌ رويتْ
عن أمّةٍ، في زمانٍ كان مًضطربا…
فكم نُعوشٍ على أكتافِهم حمَلوا!
وجابَهوا بالزنودِ العُريِ مغتصِبا!
ولم يناموا على ضيمٍ، فإنّ لهم
ملاحمَ العزّ، والميدانَ مُصطخِبا…
فالإهدنيّ يُضيءُ البرق من يدِه…
والأرضُ عن بُرجها تنزاحُ إنْ غَضِبا.
… يُسابقُ العُمرَ طفلٌ كان يؤلِمه
كيف استبدّت به الأقدارُ، واغترَبا…
وأمُّه ودّعتْه عند مفترقٍ،
واغرورقتْ في دموعٍ بعدما ذهَبا…
روما افتَحي البابَ، إنّ العبقريَّ هنا
قد هدّأ الريحَ، والموجَ الذي وثَبا
وإنّه مثلُ طَودٍ شامخٍ كِبراً
فليس يرضيه إنْ ما جاوزَ السحُبا…
تعشَّق الحرفَ، حتّى قيلَ: معجزةٌ
وكان يصنعُ من أفكاره العَجَبا
يَعْمَى، وستُّ النسا، تأتي لنجدته
وهل عسيرٌ على العذراء ما طَلبا؟
تاريخَ أزمنةٍ من بعده كتبوا
ويزعمون بأنْ قد ألّفوا كُتبا…
هذا الذي كلّل الإبداعُ هامتَه
والإهدنيُّ الذي قد شرّف الرُّتَبا…
لا ينحني الأرزُ إلاّ عند قامتِه
ولا يرتّلُ إلاّ كلّما اقترَبا.
مُشرّداً كان في الأصقاع قاطبةً
ففي السهولِ، وفي الوديانِ كم ضَربا
تحتَ الشتاءِ، رقيقَ الثوب، مرتحلاً
فراشُه كان عشبَ الأرض والحطَبا
لأنّه رافضٌ أمرَ الولاةِ، فهم
كانوا طُغاةً، وكانوا عندنا غُرَبا
والبطريركُ عظيمٌ في تمرّدُه
فليس يركعُ إلاّ للذي صُلِبا.
أنظرْ إلينا، فقد صارت منازلنا
رملّ الطريق، وصارت أرضُنا لهَبا
لبنان هذا الذي في القلب معبدُه
جارت عليه صروفُ الدهر فاختربا…
مشرّدونَ بأصقاع مشرّدة
وفي الدروبِ نلاقي الويلَ والرُعُبا…
فكم نزفْنا دماء كي نظل هنا
وكم مشينا على الرُّمحِ الذي اختضَبا
وكم سكنّا خياماً في تهجُّرنا
وكم تباكى على أرواحنا خُطبا!
نشْكو لمن؟ والليالي ما لها أذن؟
ومَن يُبالي إذا ما نرفعُ العَتبا؟
لبنانُ خانته أزمان مخادعةٌ
فأطرقَ الرأس مهموماً ومكتئبا
ويشرب الخَلّ من كأس مجرّحةٍ
وما روت غِلَّه الكأسُ التي شربا…
منتّفُ الروح، والأعباءُ تُثقلُه
فكاد أن ينْحني ظَهراً، وينقلِبا…
أنظُر إليه، وصلِّ كي يعود لنا
ويخلعَ القبرَ، والليلَ الذي غَلبا…
نريدُهُ سيّداً في عرشه، عجزْت
عنه العوالي، فأعيا الدهرَ والحِقبا
لولاه ما كان حرفٌ حزّ في حجرٍ
ولا على الأرضِ نورُ الخالق انسَكبا…
وفخرُه بطريركُ عالِمٌ علَمٌ
كالسنديانِ جبيناً مارداً، وإبا
تاريخُ أزمنةٍ ما قبلَه أحدٌ
أو بعدَه… شرّف الأسماءَ واللقَبا.
***
*جميل الدويهي – مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي 2024