مسافات: “ايتماتوف” ما بين السفينة وغولساري

 

 

  منيرة مصباح

 

عندما يكون الادب طريق الانسان للبحث عن رسالته الانسانية في اكتشاف الجمال المتواري وسط المأساة الملازمة له، بادراك عميق، يتاكد لنا كيف ان الكتابة الابداعية تكون اكثر التصاقا بالواقع الانساني، لذلك يصبح الابداع في الرواية اقوى من الحياة.

وهذا ما نراه في اعمال الروائي  “القرغيزي” “جنكيز ايتماتوف” التي غالبا ما تنبثق من الحياة ومن علاقة فكرية مستمرة بين الماضي والحاضروالمستقبل، مكونا ايقاعا ملحميا لآفاق الابداعات الانسانية. وهو الذي عمل سفيرا لبلاده الجمهورية “القرقيزية” في بلجيكا وفي الاتحاد الاروبي وحلف النتو واليونسكو.

 

ان ايتماتوف باعماله الابداعية العديدة، من “وداعا غولساري، الى السفينة البيضاء، الى جميلة، الى يوم اطول من قرن، الى غيرها…”، قد استطاع بذلك ان يدخل عمق اللغة ليطلقها من اسارها، فنرى الواقعية في كتاباته باي غنى تتفجر، عندما تتجاوز الحياة الى الممكن والخيال المحال بايقاع كوني يرسم به ايتماتوف مسافات نارية محرقة، ليتخطى من خلالها المكان والزمان، العرق والعصب، ويلج اعماق الرومنسية تلك المحبة للحياة المقاتلة في سبيلها.

 

ففي هذه الرواية بدا ايتماتوف حياته الادبية باغنية حب نادرة، في عصر صناعي مادي بدأت تتشيأ فيه العواطف وتبرد حرارة العلاقات الانسانية حيث احدثت هذه الرواية حين صدورها أثرا في الاوساط الثقافية كتلك التي احدثتها من قبل رواية غوتيه “آلام فرتر”.

ولم يات هذا التاثر الكبير الا بسبب قوة الصلابة الاخلاقية التي تمتع بها المنظرون للمبادئ الانسانية والتي يعتنقها الكاتب، هؤلاء الذين رفضوا الانهزام امام الكوارث الطبيعية، وامام التدهور الانساني، فدحروا الاعداء لاعتبارهم الخوف، احط الاعداء، ولإيمانهم بان الموت هو الرفيق الحنون في سبيل ما يعتقدونه. لقد استطاع ايتماتوف رغم كتاباته الرومنسية العميقة ان يغني واقع الكتابة الادبية ويعمقها ويخرجها من قوالبها الجامدة ويفتح لها طرقا وآفاقا بنظرته الشمولية التي تتطلب موقفا وطنيا فعالا ورؤية تقدمية تسمح له باستشفاف النزعة الحديثة قبل ان تتحول الى ظاهرة عامة.

وذلك بادراك عميق لمستقبل ظواهر الحياة القادمة بكل ما تحمله في جوهرها من صراعات وصدامات قد تؤدي في حدودها القصوى، للاقتراب من فهم الانسان لكيانه ووجوده وقيمه ومهمته التاريخية والانسانية الرفيعة.

 

“وداعا غولساري”:

اما روايته “وداعا غولساري” الذي سميّ على اثرها باديب الشعب بعد نيله جائزة الدولة، حيث انتقد فيها بشكل عنيف الانتهازية والبيروقراطية التي تعتصر الناس والمجتمع والنظام الاداري، والمتفانين في سبيل المثل التي عاشوا من اجلها. ان البيروقراطية التي صورها  ايتماتوف في روايته تمتص فائض العمل امام حاجة الناس الذين يتهمون بشرفهم وايمانهم، ورغم ذلك يواصلون مقاومتهم دون انحناء، كما قاوموا اعداءهم الخارجيين لايمانهم بان القضية اكبر من كل المتسلقين لاغصانها الخضراء. انها رواية ترينا الطبيعة بكل روعتها في توحدها مع الصراع الانساني، ليكونا عنصر الرواية الذي يصبح ايقاعا عالميا يمزج الكاتب من خلاله الشاعرية الشرقية بالواقع المعاش.

 

“السفينة البيضاء”:

اما في رواية السفينة البيضاء، فهو ينحو منحى أخر يتناول فيه قصة رجل عجوز يعيش في منطقة جبلية بعيدة مع حفيده الصغير ويعمل مزارعا في احدى الغابات. في ظل هذه الاجواء الطبيعية يتناول الكاتب علاقة الطفل بجده تلك العلاقة الانسانية الحميمة، التي يروي فيها الجد لحفيده حكايات وقصص من الواقع ومن الخيال، لكن ترتبط بذهن الطفل روايتين من روايات الجد بشكل ملح ودائم يحضره في الصحو وفي النوم.

الحكاية الاولى عن انثى الآيل، الأم ذات القرون الكبيرة، وهي حيوان مقدس عند الشعب “القرقيزي”. والقصة الثانية ألّفها الجد نفسه من خياله، تحكي عن سفينة بيضاء، كان الطفل قد شاهدها في احدى البحيرات. ومن تأثير هذه الرؤية يخترع الصبي لنفسه حلما مفاده ان والده يعمل بحارا على ظهر سفينة شراعية، وبالتالي فهو دائما يحلم بالتحول الى سمكة حتى يستطيع السباحة والوصول للسفينة.

وتستمر حياة الطفل بهذه الاحلام، الى ان ياتي يوم يجبر فيه الجد، تحت ضغط “ارزكول” المسؤول الشرير عن الغابة، لاصطياد انثى الآيل مما ادى لتعرض الطفل الى ازمة نفسية، شعر فيها بانهيار المثل الموجودة في الحكاية التي رواها له جده، عن قدسية هذا الحيوان. لذلك نراه في نهاية الرواية يفكر كيف يستطيع السباحة كسمكة ليصل الى السفينة.

لقد حاول الكاتب في السفينة التعبير عن جدلية التصورات الشعبية للخير والجمال والشر، وللأسس الاخلاقية للشخصية الانسانية . ان ايتماتوف في روايته هذه يترك في نفوسنا احساسا عميقا وتأثيرا كبيرا بانه هو نفسه الطفل الذي كانه بنهاية الفاجعة، كرمز لقتل الطهارة والنبل في النفس البشرية. ومن جانب آخر نرى رمزا آخرا هو الطفل في سياق الرواية باعتباره المستقبل الذي يحاول الاشرار والانتهازيون قتله. كما ان نهاية الرواية عبارة عن دعوة لمقاومة كل الطفيليين، والمحافظة على الطفولة كشرط ضروري للحياة.

لقد استطاع ايتماتوف ان يقتنص اللحظات الطفولية في النفس الانسانية ليصورها من خلال الحياة الداخلية لابطاله، وابطاله بالطبع هم الحالمون بالعدالة والحياة وبالفرح الانساني على هذه الارض.

اترك رد