مسافات: الياس خوري في رحلته الأدبية وسيرته الفكرية

 

 

   منيرة مصباح

 

 

ثمة كتابات وأعمال أدبية تدفع كاتبها وقارئها الى تعريف نفسه والى اعلان هويته وتوجهه الفكري، وبالتالي ترده الى ذاته وذات الكاتب فيقول انه قريب منه كنفسه أو أقرب، لكن لا ريب انهمالا ينتسبان الى عالم واحد، فالأول يرخي جناحه على عالم لا يعرفه بعد، فيما يضرب الأخر في فيافي عالم ازدوج فيه كل شيء بدءا بالنفس، لذا فقراءة الكتابات تردك الى نفسك البعيدة الضائعة أحيانا، لا تكاد ملامحها تسطع حتى تخبو في ضباب العالم والآخر المفترض.

ولا شك ان القارئ يظن ان الاعمال الأدبية تتوسل المخيلة وسحر البيان فقط بعيدا عن الواقع الاجتماعي، لكن حين يمسك الكاتب بأطراف التجربة الخصبة بقوة وثقة تمكنه من الدخول الى أعماقها، يستطيع عندها ان يحقق أهدافا جوهرية للكلمة ويبني أسسا وطيدة للعمل الأدبي الروائي أو القصصي. وفي غمار هذا كله فهم الكاتب والأديب والروائي الياس خوري ان على المجتمعات ان تعبئ طاقاتهاعلى المقاومة لتكون لها اللحظة النموذجية من لحظات التاريخوكان على الوعي الثقافي الذي يمتلكه ان يتوجه به في كتاباته السياسية، وعلى الوعي التاريخي لديهان يتوجه به للمقاومة التي عليها ان تلمّ بفاعليتها لتشكل مقوّما من مقومات تماسكها ومقاومتها من أجل الحرية والتحرر. لذلك بقي قريبا من فلسطين ومن مجتمعه اللبناني.

الياس خوري في أعماله الادبية تعمّق في قضايا المجتمع وفي أعماق التراث الادبي ليربط بين عالمين لا ينفصلان عالم ماض وعالم حاضر يركض نحو الحداثةفجاءت رواياته ومنها رواية “أولاد الغيتو(إسمي أدم)” حداثية بمفهوم المعاصرة حين أدخل فيها شعروضاح اليمن وقصته المأساويةالتي أدت الى موته بالدفن حيا. هذا الى جانب معاناة الفلسطينيين التي صورها في مخيم في مدينة اللد بعد احتلال المدينة عام 1948 من قبل العدو.

 

لكن لم تكن هذه الرواية الأولى التي كتبها عن مأساة الفلسطينيين انما كان قبلها رواية باب الشمس التي صورت الهجرات القسرية والمعاناة الفلسطينية المصاحبة “لأيديولوجيا الخوف” من خلال الترهيب والإرهاب والقتل والاعتداء على الأطفال والنساء ومن ثم سرقة الأراضي.

لكن هنا في هذا المقال لن اتناول روايات اشتهرت كثيرا للكاتب الذي يعرف بمواقفه والتزامه بالقضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية حيث عمل رئيس تحرير في مؤسسة الدراسات الفلسطينية وقبلها مجلة الكرمل، انما سأتناول مجموعته القصصية “المبتدأ والخبر”. ففي قصصه هذه استطاع الياس خوري أن يمسك بقوة بالخيط السردي، ليقدم لنا أربع قصص حملت عنوان المجموعة واحدة منها، وهي ثلاث رصاصات، والقبر، ورائحة الصابون، والمبتدأ والخبر. هذه العناوين حملت قصصا حصلت في زمان ومكان واحد وتحت سماء واحدة انتشرت فيها الحرب،

لقد استنطق الياس خوري في هذه المجموعة ذاكرة شخصياته ليضفي على واقعهم مأساة زمنية متعاقبة يعيشونها، تمثل واقع المجتمع الذي ينتمون اليه وهو الى جانب ذلك يوظف أدوات الواقعية النقدية الحديثة في العمل القصصي كما عودنا في معظم رواياته، كما يقدم لوحة شاملة للعلاقات الاجتماعية من خلال الفوارق الطبقية في المدينة التي تتنازعها رواسب التخلف والحضارة الموروثة، مع واقع الحرب السائدة بكل تفاصيلها التي لا تعني الشخصيات في شيء.

لنبدأ في قصة المبتدأ والخبر حيث نرى نسيم زيدان يتخذ قرارا في نسيان كل شيء وكل ما يحدث من حوله حيث يقول: “الذكريات تقتلني، الذكريات ورائحة العفن، كل شيء يجب ان ينتهي، وأنا يجب أن أنسى”. لقد قرر نسيم ان ينسى كل شيء ويبدأ حياته من جديد بذاكرة نظيفة وفارغة من كل تفاصيل الحرب ومأساتها، قرر الغاء ذاكرته التي يمتلكهاوالمحملة بأعباء واقع اليم يعيشه، ليس لوجوده فيه علاقة. فهل نجح في ذلك؟

السرد القصصي يقول لنا ان نسيم يستمر في حمل ذكرياته مثقلا، وان كل ما مرّ به وبعائلته يتراءى له كل يوم وكأنه كابوس لا يرحم. فالذاكرة لا تستبدل ولكن تكون حافزا للانطلاق في الحياة وتجاوز كل الآلام. فمن زاوية القرف والتعب الزمني تنطلق المقاومة، مقاومة الدمار والموت لتنهض الحياة بكل تفاصيلها واستمراريتها. ان سردية الياس خوري في رواياته وفي قصصه مليئة بممكنات درامية صادرة عن طرحه للصراع الاجتماعي والأخلاقي غير المتكافئ بين عالمين، عالم من يملكون لدرجة التبذير والاستهتار بكل القيم الإنسانية، وعالم من لا يملكون لدرجة البحث المضني عن القوت اليومي بكل الطرق هذا إذا توفر.

ان نديم زيدان في المبتدأ والخبر يحاول ان لا يحمل الكثير من الذكريات لينطلق في حياته للمستقبل الذي يتصوره، لكن والدته وجدته هما اللتان تحملانه تلك الذكريات ليزيد رصيده الزمني من الألام، فتتداخل عنده الصورة، صورة الماضي البعيد بالحاضر الماثل أمامه لتلازم العمل السردي في مراحله كافة.

ان الكاتب يقدم لنا مأساة العديد من العائلات في المجتمع اللبناني، فنديم يعيش مع والدته التي تستمر في تذكيره بوالده الذي اختفى دون ان يعرف أحد كيف ومتى ولماذا؟ ومع جدته التي تروي له دائما قصصا عن جده الذي هاجر الى البرازيل وتركها مع طفلها الصغير الذيهو والد نديم والذي اختفى بدوره دون ان يترك سببا او إشارة أو معلومة عن غيابه ان كان قسري أو أرادي، حيث تعيش المرأتان، الجدة والام، على ذكرى الرجلين وعلى أمل عودتهما في يوم ما رغم فقدان التواصل الإنساني بينهما أو معرفة أي شيء عنهما.

ان المرأتان تعيشان على ذكرى رجلين لا وجود لأحد منهما في حياتهما ولا حتى في الحياة.

لكن كل واحدة من المرأتين تحاول ان تثبت للأخرى ان رجلها ما زال حيا وسوف يعود في يوم ما. هكذا يظهر الياس خوري عجز المرأتين وهما تحملان تاريخهما التراثي، عن مواجهة الحقيقة والواقع. وعندما يعود والد نديم في نهاية القصة ميتا داخل براد مستشفى وتذهب الأم للتعرف عليه تنظر الى وجهه ولا تقول شيئا تقبله ولا تقول شيئا، ويدفن دون اسم ولا تقولشيئا.تلك المأساة التي تعيشها المرأتان تنعكس بالطبع على حياة نديمليعيش دوامة من الأوهام الكاذبة حتى يموت هو أيضا بكذبة من صاحب العمل، وهو الذي اضطر أن يترك مقاعد الدراسة لمساعدة والدته والعمل سائقا خاصا لدى مروان. وقد فتح بعمله هذا باب رزق للقوت اليومي، وأبعد امه عن العمل في بيوت الأغنياء.

كانت حياة نديم شبيهة بحياة كثير من الناس في المجتمع الى ان التقى بندى وشعر نحوها بشيء من المودة جعلته يحكي لها كل حكاياته واماله واحلامه القديمة والحديثة وكل ما يسمعه من امه ومن جدته، لكن حين بدأ يكلمها عن الحرب ومآسيها وقرفها، وجدها تعرف أكثر منه. وعندما توفيت جدته تداعت لذاكرته كل احداث الطفولة ومنها كيفية موت صديقه وخوفهمنه الذي لاحقه ويلاحقه طوال حياته.

ومن خلال تداعيات الذاكرة كانت تبرز الحرب أمامه تلك التي يتبعها الموت والتي كان يشبّهها بانها مجرد ثقوب فارغة في الرأس تعمل على دفن الأموات فيها مع دفن كل ملامح تلك الحرب التي تختلط فيها المفاهيم لغياب القيم الإنسانية في ظل واقع حرب مريرة. ان الياس خوري يربط بين جميع شخصياته في هذا العمل بخيط واحد من خلال تجربتهم التي تكوّن العمل السردي وخطّه الدرامي، فالطفولة في جميع القصص تضفي وصمة من الألم تلازم الكاتب في جميع مراحل منجزه الادبي. واحساس الشخصية الرئيسية في كل قصة من المجموعة بانه مجزّأ ومشدود للكثير من التناقضات المتشابكة والمشحونة الى حد الاختناق تعطي العمل السردي تصاعدا دراميا يتفجّر في لحظة الموت المنتشرة بين دفتي الكتاب.

 

كما وان اعتماد الكاتب في قصصه على تداعيات الماضي واختلاطها بالحاضر ليلاحقا معا شخوص القصص في تعاقب يرسم صور الماضي والحاضر ويكوّن ازمة ما يسمى بالمبتدأ والخبر تلك الازمة التي يعيشها الانسان والتي تشده الى جذور اجتماعية مليئة بحياة القلق والصراع. وهذا ما دفع الياس خوري الى اللجوء للغة المقاومة والى تتبع المعرفة في الدراسات العليا والى النظر لقطاعات المجتمع التي تمثل حجر الأساس في استقرار المدن الحديثة وفي حفاظها على لون من الوحدة يقيها التفتت والتمزق.

لقد سعى الياس خوري منذ بواكير انتاجه الفكري الى تأسيس معيار شامل يمكن في ضوئه تقويم أمانة الانسان التي تجعله انسانا في اللحظة التيتنتشله من شيئية الأشياء وطبيعة الطبيعة ومن ثنائية الشر والخير وجدلية التاريخ والمادة وتناسق الثقافة والمعرفة وخصوصية المقاومة والحرية. لذلك عرف بتأييده الدائم للقضية الفلسطينية، حيث قال في آخر كتاباته قبل وفاته ان ما يحصل في غزة مع صمود المقاومة أصبح بالنسبة له (النموذج الذي يتعلم منه كل يوم حب الحياة). تحية تقدير لمنجزه الادبي والفكري والسياسي، ولروحه السلام اينما كان في عالمه الاخر.

حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون الجديدة تخصص تاريخ اجتماعي عام 1972

درّس في الجامعة اللبنانية والأمريكية في بيروت

كما درّس في جامعة نيويورك وجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الامريكية

ترجمت اعماله الى العديد من اللغات العالمية منها الفرنسية والإنكليزية والألمانية والاسبانية وغيرها

من اعماله الروائية: باب الشمس وقد تحولت الى فيلم سينمائي، (نجمة البحر الجزء الثاني من أولاد الغيتو)، رحلة غانديالصغير، مملكة الغرباء، مجمع الأسرار، كأنها نائمة، المرايا المكسورة، وغيرها كثير. هذا الى جانب مجموعات قصصية عديدة ودراسات نقدية وكتب تاريخية.

اترك رد