قراءة في رواية “فرصة ثانية” للكاتبة صباح بشير

 

 

عفيف قاووق – لبنان

 

رواية فرصة ثانية للأديبة الفلسطينية صباح بشير، صدرت مؤخرًا عن دار الشامل للنشر والتوزيع. وبرغم صفحاتها التي لم تتعدَّ ال260 صفحة، إلا أن الكاتبة استطاعت التطرّق وإثارة العديد من القضايا والإشكاليّات الإجتماعية، وقدّمتها لنا من خلال ثلاث حكايات ليست غريبة عن واقعنا العربي وأن تجمع بين هذه الحكايات وتقدّمها في رواية خُطّت بأسلوب سلِس وبلغة سهلة الفهم بعيدة عن أي تصَنُّع. فتُحفّز القارىء لمتابعة القراءة. وإذا أردنا تجنيس هذه الرواية فإنها برأيي تنتمي الى الأدب الواقعي والاجتماعي كونها تتطرّق الى قضايا اجتماعية واقعية يكاد لا يخلو أيّ مجتمع في وطننا العربي من وجودها. فقد تناولت مسألة الزواج والأمومة والعلاقات العاطفية العابرة، ومدى انعكاس هذه المسائل على حياة الفرد والأسرة في آن. 

وقبل الغوص في مضمون الرواية وشخصياتها، لا بدّ من التوقّف للإشادة بجماليّة الوصف الذي قدّمته لنا الكاتبة، ونورد مثالا على هذا، ما أجاد به قلمها من بوحٍ تصف فيه مدينة حيفا وعراقتها فتقول: مدينـة حيفـا التّـي تعـجّ بالحيـاة ، سـيمفونيّة مـن البشـر والحجـر والبحـر والحيـاة، تتراقـص أمواجهـا علـى إيقـاع أنغـام البحـر المتوسّـط،  وتلامـس جبـال الكرمـل الشّـامخة حكاياتهـا الإنسـانيّة، تشـكّل حيفـا لوحـة فنّيّـة سـاحرة،  فيهـا مـن التناقضـات مـا يضفـي عليهـا جمـالا خاصّـا، مـن جمـال البحـر إلـى صخـب المدينـة، مـن خضـرة الجبـال إلـى زرقـة السّـماء، من عراقـة التّاريخ إلـى حداثـة الحاضـر، وهـي لا تنـام علـى وسـائد الليـل، بـل تبقـى مُضـاءة بأنوارهـا السّـاطعة؛ كأنّهـا تقـاوم الظلام، وتعلـن عـن إيمانهـا بالحيـاة، فهـي ليسـت مجـرّد مدينـة علـى خريطـة، بل هي حكايـة إنسـانيّة خالـدة، حكايـة شـعب عـاش علـى هـذه الأرض منـذ القِـدَم، حكايـة صمـود وكفـاح، حـبّ وأمـل.(83).  

    وفي موضع آخر تقدّم لنا الكاتبة رؤيتها ومفهومها للأمومة، وهنا أقتبس بعضاً ممّا ورد: “كلّ أمّ هـي عالـم خـاصّ بحـدّ ذاتـه، لهـا رائحـة فريـدة تعبّـر عـن شـخصيّتها وحنانهـا وحبّهـا، تلـك الرائحـة ليسـت مجـرّد شـعور حسّـيّ فحسـب، بـل هي لغة الحـبّ والحنـان والتضحيـة التـي تلامـس أرقّ المشـاعر الإنسـانيّة. فالأمومـة لحـن يرافـق المـرأة طوال حياتهـا،. فالشـمس تشـرق مـن عيـون الأمّهـات، وشـال الحرير على أكتافهـنّ سـرّ مـن أسـرار القداسـة، ينسـجن مـن العطـاء أجمـل أثـواب العطـف والحنـان، ويغمـرن أبناءهـنّ بالـدّفء والأمـان” (50)، كما أن هُدى التي تكفّلت برعاية ابن شقيقتها تقولأنّ الأمومـة ليسـت محصـورة علـى الإنجاب البيولوجـي فقـط، بـل هـي شـعور عميـق بالحـبّ والعطـاء، يمكـن أن ينبـض فـي قلـب كلّ امـرأة” (219).

   بالعودة إلى الرواية، وكما أسلفنا فقد اثارت بعض القضايا الإجتماعية وسنحاول التطرّق إليها قدر المستطاع:

   الحكاية الأولى حكاية مصطفى الذي توفيّت زوجته فاتن على سرير الولادة بعد أن أنجبت وليدها يحيى، وهنا تبدأ أم مصطفى على حثّ ابنها للزواج من هدى شقيقة زوجته المتوفاة، بعد أن لمست منها كل تعاطف وحنوّ تجاه ابن شقيقتها وتعلّقها به ، وبدأت كلّ من والدة مصطفى ووالدة هدى بمحاصرتهما بالحجج والموجبات التي تجعل من هذا الزواج ضرورة لا بل واجباً فقط لأجل رعاية الطفل الوليد دون الإكتراث لمشاعر الزوجين المفترضين. فوالدة مصطفى تلفت نظره إلى هدى التي ستكون زوجـة مثاليّـة لـه، وأنّ حبّهـا ليحيـى لا يضاهيه حـبّ الأمّ لابنهـا، إضافة إلى كونها جميلـة وأنيقـة ورقيقـة. 

 وعلى الضفة الأخرى نجد والدة هدى تحاول إقناع ابنتها بهذا الزواج، وتضغط عليها من زاوية تعلّقها بيحيى في حال رفضها فتقول: أن والده مصطفـى لن يوافق علـى بقـاء فلـذة كبـده تحـت جناحـك الرّقيـق إن تزوّجـتِ يومًـا برجـل آخـر؟ هـل تظنّـين أنّ يحيـى سـيظلّ برفقتـك بعدهـا؟ وأمام هذا الإلحاح من كلا الجانبين يتمّ الزواج الخالي من أحاسيس عاطفية تجذب العروسين اللذين بقيا لفترة لا بأس بها تحت سقف واحد دون أي تلامس او حياة حميميةّ. قبل أن تستقيم الأمورلاحقًا ليباشرا حياة زوجية مكتملة.

وعلى هامش حكاية مصطفى مع هدى، نجد أن المرأة تبقى هي الأنثى التي تصرّ على الإنتصار لأنوثتها مهما كانت الظروف، فمثلاً هدى التي ارتضت شبه مرغمة للزواج بمصطفى بعد وفاة شقيقتها فاتن، ومع كلّ تفهّمها لحيثيّات هذا الزواج ولحجم الحبّ والوفاء الذي يكنّه مصطفى لزوجته المتوفاة، إلا أنها وفي لحظة غضب نجدها تثور في وجهه وتنبّهه إلى أنّها هدى وليست فاتن قائلة: “لتفهم أن فاتن  لـم تعـُد موجـودة،  أنـا هنـا حاضـرة،  مُحبّـة ومخلصـة، لا تقارنّـي بهـا، فأنـا لسـت نسـخة عنهـا ولـن أكـون، أنـا هـدى، أمّ ابنـك، زوجتـك، شـريكة حياتـك، متـى سـتدرك ذلـك؟ لا أريد أن أكـون فـي المرتبـة الثّانيـة بعـد فاتـن”.(214).وتكمل قائلة: “لا أسـتطيع البقـاء فـي بيـت لا أشـعر فيـه بالحبّ، لا أشـعر فيه بأنوثتي ككلّ النساء، أحتـاج أن أكـون محبوبة ومقدّرة  ومرغوبـة” (217).

  أمّا مصطفى، فعلى الرغم من زواجه – الأخوي إذا جاز التعبير- يبقى الرجل الذي تجتاحه الغيرة وبوادر الشك بعد ان لاحظ معاودة هدى لرحلتها الجامعية واختلاطها بالزملاء، ممّا أشعل نار الغيرة والشك في قلبه، محاولا إقناعها بالابتعاد عن أحد رفاقها بالجامعة لتواجهه بالقول: “كرامتـي خـطّ أحمر لا أسـاوم عليه، لا تظنّ أنّ حبّـي وتعلّقـي بيحيـى سـيجبرني علـى السـكوت عـن إهاناتـك وشـكوكك، فمشـاعري ليسـت رخيصـة. وعنـد الاختيـار بـين كرامتـي وبينـه، سـأختار كرامتـي دون تـردّد”.(229). 

   الحكاية الثانية في هذه الرواية هي حكاية عبدالله شقيق مصطفى الذي تزوّج من “لبنى”، فكان الزوج العاشق والصبور على تصرّفاتها المستفزة والتى لا تفوّت أيّة فرصة لتشارك صديقاتها في حفلاتهنّ وسهراتهنّ دون الإلتفات إلى مسؤوليّاتها تجاه زوجها، كما انها ترفض الحمل والإنجاب وتعتبر ان هذا القرار مصيـريّ سـيغيّر حياتهـا وهي تريد الاسـتمتاع بشـبابها وأيّامـها قبـل أن تدفنهمـا فـي الأمومـة كما قالت.

    لقد امتاز زواج عبدالله ولبنى بوجود فجوة ثقافية بينهما، وعدم انسجام أو توافق حتى في الهوايات، لا بل أكثر من ذلك حتى في الأطعمة، فهي لا تضع مثلا الثوم في الملوخية فقط لانها تكره رائحته وتفرض على زوجها تناولها كما هي. وأيضا تقضي معظم الوقت امام شاشة التلفاز وصوته المرتفع ممّا يمنع زوجها عبدالله من ممارسة هوايته المفضّلة وهي القراءة. هذا التنافر وغياب لغة التفهّم والتفاهم بينهما جعلهما يعيشان في شبه طلاق عاطفي وإن وُجدا تحت سقفٍ واحد. 

   انطلاقا من علاقة لبني بزوجها عبدالله، تثير الكاتبة مسألة اعتبار الزواج من قِبل البعض وخاصة الفتيات، بمثابة الطريـق للخلاص من الكبت او الحرمان الذي تعانيه الفتاة في بيت أهلها، وهذا ما أفصحت عنه لبنى لصديقتها هدى بأنها وافقت علـى الزّواج من عبد الله رغـم افتقـار قلبهـا للميـل نحـوه، واختـلاف اهتماماتهمـا كاختـلاف الليـل والنهـار. وتستذكر تهديـدات والدهـا الصّارمـة قبـل الـزّواج، بمنعهـا مـن الخـروج مـن المنـزل، وكيف كانت طفولـتها مقيّـدة بقوانين صارمـة، فالأجـواء مشـحونة بجدّيّـة مقيتـة، كأنّها تعيـش فـي سـجن مقفـل. وتكمل لبنى في بوحها فتقول: ” كنـت أختنـق وأتـوق إلـى التحـرّر للعيـش حيـاة طبيعيّـة كباقـي الفتيـات. لذلـك، فـررتُ مـن سـجنهم بـزواج لـم يكن حبّـا حقيقيّاً، فقـد كان عبد الله بوّابتي الوحيـدة نحـو عالـمٍ جديـدٍ ينبـض بالحرّيّـة والانفتـاح، عالـم يغـدق علـيّ فيـه حبّـه وعنايتـه واهتمامـه دون حـدود”(252).

    أما الحكاية الثالثة في هذه الرواية فبطلها ابراهيم طبيب الأسنان وهو صديق مصطفى وشريكه في معرض لتجارة السيارات، وإبراهيم هذا تزوّج مرّتين وفشل في زواجه، ممّا ولّد لديه نفوراً من عالم النّساء، وأصبـح أكثـر حـذراً من الزواج ومؤمناً أنّ السّعادة لا تأتي من الـزواج فقـط، بـل مـن الإيمـان بالنفس والعمل المخلص ومسـاعدة الآخرين . وسأل نفسه: ” هـل الـزواج مـأوىً للحـبّ أم قيـد لـلأرواح؟ هـل المرأة شـريكة في رحلـة الحيـاة أم لغـز نحـاول نحـن الرّجال فـكّ رموزه؟(58)، فالـزّواج بحسـب رأيـه قفـص ذهبـيّ، يحبِـس فيـه الرجـل حريّتـه، ويقيّـد مشـاعره وأحلامـه، ويخـدع العطشـى ويُضِلّهـم عـن طريقهـم”(59).

   لكن القدر شاء أن يلتقي إبراهيم بجارته “نهاية” وتنشأ بينهما علاقة مودّة وإلفة أوصلتهما إلى السرير، ولكن ابراهيم بقي مصرّاً على موقفه من الزواج عندما طلبت منه نهاية ان يتزوّجا، وشـعرت بأحلامهـا تتحطّـم أمـام صخـرة الواقـع، رفضت بشـدّة الاسـتمرار فـي هـذه العلاقـة بعد أن اعترف لها ابراهيم قائلاً: “الزواج أنـا لا أُؤمـن بقيـوده، ولا أرى فيـه سـوى قفـص يحاصـر حريّتـي، إنّ علاقتنـا جميلـة هكـذا، فلمـاذا نفسـدها بـأوراق رسـميّة قد تصبـح عبئا على قلوبنـا؟ أريـد أن أكون معكِ دون قيـود أو شـروط، يكفـي أن تتلاقـى أرواحنـا، وأن تتناغـم قلوبنا؛ لتصبـح الحيـاة سـيمفونيّة جميلة تعزف لحن الحبّ”.(145).

   نلاحظ في هذه الرواية الدعوة ولو غير مباشرة للإهتمام بالشأن الثقافي والفنّي، من خلال الإشارة إلى اهتمام ابراهيم بالموسيقى مثلاً “عندما استمع إلى معزوفة موسيقيّة من بيت جارته ” نهاية” هـي موسـيقى «نينـوى» وتورد لنا الكاتبة نبذة عن هذه السيمفونية التي يُختَلـف حـول مؤلفّهـا وتقول بأن “للموسيقى  سـحرها الخاص فهي تتجاوز حـدود الزّمان والمـكان، وتتحـدّث بلغـة عالميّـة يفهمهـا القلـب قبـل العقـل”.

كما برزت دعوة مماثلة تحثّ على الإهتمام بالقراءة، وفي رسالة ملؤها الأمل، وبلفتة ذكيّة تشير الكاتبة إلى روايتها الأولى التي أقتبست منها فقرة تُثري روايتنا الحالية، ولا تبدو دخيلة عليها لتتحدّث عن الحبّ والأمل، فعندما لاحظ ابراهيم انّ هناك امرأة  تتصفّح كتاب«رحلـة إلـى ذات امرأة» سألها إن كانت قرأت الفقرة التي تقول:«هـا أنـا أجلـس علـى شـرفتي الجميلـة وأدوّن الذكريـات، بعـد أن أَغلقـتُ أبـواب قلبـي بإحـكام وفتحـت أبـواب العقـل علـى مصراعيهـا»..؟ لتجيبه: “يُخيّـل إلـيّ أنّنـا نُسـارع أحيانـا في إغـلاق أبواب قلوبنا، لكنّنـي أؤمـن أنّ الحـبّ قادرعلـى إحيـاء القلـوب المنهكة، فلا تقفـل قلبـك أبـدا، فالحيـاة جميلـة، كيـف نعيشـها بقلـب مغلـق؟ تذكّر يا أخي، أنّ أبواب القلب مثل أبواب البيوت، إذا أغلقتها تمامـا لـن يدخـل إليهـا الهواء والنّور، لكـن.. إذا فتحتها بحذر فسـتدخل إليها السّعادة والأمل والحبّ”.(150).

واستكمالاً لرسالة الأمل هذه، تُنهي الكاتبة روايتها بانتظام العلاقة الزوجيّة بين مصطفى وهدى الحامل في شهرها السادس، وكذلك لبنى بعد أن راجعت نفسها واقرّت بخطئها تعود إلى زوجها عبدالله، وها هي في شهرها الثامن تنتظر مولودها، وأخيراً ابراهيم تجاوزعقدة الخوف من الزواج وتزوّج من جارته نهاية. واعتبر كل منهم بأن القدر أو المستقبل منحه فرصة ثانية لإنعاش حياته.

لا بد وأن نسأل إذا كانت الرواية تحدّثت عن أن ابراهيم  ومصطفى وعبدالله وأيضا لبنى قد منح كلّ منهم فرصته الثانية، يبقى السؤال مُعلقًا وهو: ما هي الفرصة الحقيقيّة التي مُنحت الى هدى او حُرمت منها ؟ 

رواية فرصة ثانية رسالة مفعمة بالأمل ، وإثر كل كبوة لا بُدّ من النهوض لتستمر الحياة بكل تلاوينها.

   ختاما أقول، سبق للكاتبة صباح بشير أن منحتني فرصة أولى لقراءة كتابها “رحلة إلى ذات امرأة” وها هي اليوم مشكورة تمنحني فرصتي الثانية لقراءة هذه الرواية الشائقة. وأختم بالقول مبارك للأديبة وإلى المزيد من التألّق والنجاحات.

اترك رد