مسافات:حين تصبح الكتابة أفقًا للأسير

 

 

    منيرة مصباح

 

عندما تكون الكتابة فعلا لصيقا بتجربة شعب تتوحد فيها مسحة الأسى لتصبح الصياغة تحاكم وتستنهض بكلمات تغلفها المساءلة لتاريخ ينطوي ويدور حول ما انقضى من تجربته. أقول هذا وانا أتابع حياة المثقف الفلسطيني والكاتب”باسم خندقجي” الذي يعيش بالأسر في سجون الاحتلال، والذي حصل عل جائزة البوكر العربية عن روايته قناع بلون السماء التي كتبها في أسره المؤبد منذ 2004. وهذه ليست الرواية الوحيدة لباسم انما هناك العديد من الروايات والدواوين الشعرية والمقالات المنشورة في الصحف كُتِبت في سجون الاحتلال او خارجه.

الكاتب في روايته يقتل كل البشاعات التي تحاصر فضاء صباحاته الزرقاء، ويفتح أفقا من خلال الكتابة لأفكاره الخصبة في تغيير واقعه السجين، فيرسم بالكلمات مستقبلا مزهرا لاسترداد أجزائه المسلوبة أمام دم وشظايا وألوان تعبق بالحياة. باسم اندفع للكتابة بتخصصه الإعلامي، وهو خريج كلية اعلام من جامعة النجاح اعتقل وهو في سنته الأخيرة، وبنزيف الشهداء الطيب ليعانق شعاع الضوء المحجوب عنه، لكنه صاعد من حلمه ببريق مستقبل مشرق يبعث على الثبات في الموقف من اجل الحرية والتحرر.

 

الرواية تظهر لنا شخصية نور شاكر عالم الأثار في حوار يدور بينه وبين شخصية مراد وهما سجينان في سجون الاحتلال وكل منهما يتخذ فلسفة مختلفة في تأكيد هوية المثقف الفلسطيني وقدرته على إثبات أحقيِّته في مواجهة هذ المغتصب للأرض، هذا جانب من الرواية التي تحمل جوانب عديدة أخرى مثل الهوية والتاريخ والماضي والحاضر وارتباطها بالواقع المعاصر. هكذا الفلسطيني لا يسير بذاكرة مثقوبة، انما ذاكرته تلقي الضوء على مظالم العالم،

ذلك العالم ذو الذاكرة المثقوبة والميزان المائل الذي يتخذ من الأحداث أحكاما خاصة تنسلخ عن الواقع الذي يفرضهاكتمال المنظر التاريخي في حضوره المعاصر.

ومنذ ما يقارب القرن من الزمن ما زال الفلسطيني يعاصر هتك اسرار التاريخ والكشف عن حقائقه، وإدانة أدواره ووقائعه. باسم خندقجي يحاول رتق الثقوب الكثيرة التي تكاد تؤلف ذاكرتهم. وهو اذ يقوم بعمله الكتابي هذا لا يأخذ جانب الحيطة ويباشر مهمته الكتابية التي وضعها نصب عينيه قرابة 24 سنة كأن الامر ممتد دون نهاية كأسره الممتد الى الأبد. نراه يسجل أحاديث شخصيات روايته، يطارد التأملات والوقائع والحقائق التاريخية ويضعها في الذاكرة السليمة لروايته. وهو ينزع الى اغفال الانقسام ويسعى الى رسم صورة موحدة رغم اختلاف المناهج الفكرية للمثقف في المجتمع الفلسطيني فالتحرير هو الهدف رغم تطلعات فئات منه القبول بالواقع.

 

رأى باسم في تجربة أسره أحزان أجيال لم تهن من طول الانتظار، ففتش عن رؤية جديدة يلخص بها تجربة الجماعة متوحدا بتجربته نازعا نحو تجاوز الراهن الأسير في انجاز قدر من حركة المجتمع في رحلته الكتابيه، ليكون نموذج المثقف المؤمن بقضيته الوطنية المرتبطة بالهوية. والكاتب في رحلته التأملية يرتكز على وعي عميق لا تخطئه الذاكرة، فمنه جاءت كتاباته عالما بلا جدران في توقه للحرية بشكل عام والتحرر من قيد السجانبشكله الخاص.

ان حدود الحصار والتطويق والممارسة على الفلسطيني مستمرة منذ أزمنة بعيدة وهي تأخذ أشكالا عديدة، بدءا باغتصاب الأرض قديما وحديثا “كما يحصل في غزة”، الى المطاردة اليومية والاعتقالات والاغتيالات والقتل الشامل والابادة الجماعية والتهجير الممنهج. وما يناله المثقف الفلسطيني يحصل مع كل الشعب الفلسطيني. وإذا حاولنا مراجعة تاريخ عذاب هذا الشعب نرى ان المثقف الملتزم بموقف وبحقوق عادلة رغم حصاره وأسره هو الأكبر.

 

باسم خندقجي الروائي لم يمنعه السجن والاسر من التعبير عن مأساة شعب فرسم بالكلمات دائرة وجده داخل دائرة سجنه، فألغى المسافة بوضوح بين العاطفة والكلمة، بين الوجد وبين العقل بين القلب وبين الالتزام، فجاءت كتاباته وحدة موقف في التعبير عن عدم اختلاف الطرق المتعددة ما دام الهدف النهائي التحرير والتحرر، وفي مثل هذه المواقف لا يختلف الابداع الفكري عن الابداع الفعلي، فهو يمتد في ثقافة كل أمة من الأمم.

وفي هذا المدار لا يدخل حركة الفعل الكتابيالا مثقف يحكي مشاكل شعب بكل التناقضات الموجودة فيه من خلال أدوات التعبير المختلفة والتي تتحرك بدافعمن حب الوطن، ذلك يوصل الكاتب والمبدع والمفكر والشاعر وكل الذين يختارون العمل الفكري كمهنة لهم، الى جانب أخرين ممن اختارواان يدافعوا عن قضايا المجتمع المصيرية رغم الأسر والحصار.

 

أما إذا نظرنا الى فلسطين فنرى وطن مصادر وارض محتلة ومجازر ترتكب كل يوم، مما يجعل عوالم الكاتب لا تختلف عن عوالم الكُتّاب السجناء داخل سجون الاحتلال، الا من حيث معايشة الآثار النفسية والأحلام بعيدة التحقق في الحرية لذلك حملت رواية باسم عنوان قناع بلون السماء، انه يتنفس بين السطور بأحرف تختلج بها الحنجرة التي أدمنت عذاب الأسر.

هناك في فلسطين في الأرض التي يُدافَعُ عنها بالأسنان والاظافر والعيون والحناجر والأذرع والأقدام العارية، هناك على تلك الأرض من فلسطين بقي العديد من الادباء والشعراء متشبثين بالتراب مرتبطين بثقافة مقاومة،لم تُسلب ذاكرتهم ولم تُثقب بل بقيت تحمل شهادة الشهداء عن معاناتهم ومأساتهم. ان تجربة “باسم خندقجي” في تحويل مقاومته الى فعل كتابي ابداعي جعل من هذه المقاومة خطا موازيا للمقاومة العملية والفعلية على الارض، مما أدى بالتالي الى حركة رأي عام شبابية عالمية ترفض كل أشكال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتجويع للقضاء على ما تبقى من حياة على الأرض الفلسطينية، لكن الحياة في الوعي الإنساني هي السر الأقوى من الاسر ومن آلة الدمار والقتل. وليس من قبيل الخيال ملاحظة شعاع الامل العميق في تجارب من لا ييأس من الصمود المتواصل لإنجاز استقلالية الحياة.

 

باسم خندقجي خريج كلية الاعلام من جامعة النجاح في نابلس فلسطين، اعتقل وهو في سنته الدراسية الأخيرة

اعماله الروائية: قناع بلون السماء، خسوف بدر الدين، أنفاس امرأة مخذولة، نرجس العزلة، “مسك الكفاية سيرة سيدة الظلال الحرة ”

الاعمال الشعرية: طقوس المرة الأولى، أنفاس قصيدة ليلية

فهنيئا لباسم خندقجي حصوله على جائزة البوكر العربية وهو في معتقله الصهيوني فهي تَشْرُ فُ به.

اترك رد