نقل العلوم الهندية إلى اللغة العربية

بقلم: د. صهيب عالم (*)

منذ فجر الإسلام بدأت حركة الترجمة عن اللغات الأخرى إلى العربية، وشملت الفارسية والهندية واليونانية في ميادين الآداب والعلوم كافة. ولئن كان المسلمون قد أخذوا عن logo fikrالحضارات السابقة، فإن هذا لا يقلّل من شأنهم، لأن الترجمة كانت مرحلة من مراحل الابتكار العلمي الإسلامي، وهذه المراحل هي: النقل والترجمة، أولاً، ثم الشرح والتفسير، ثانياً، فالنقد والتصحيح، ثالثاً، وأخيراً مرحلة الإضافة والابتكار. فماذا أفادت الحضارة العربية من المعارف الهندية؟

تفاعُلُ الحضارات والثقافات والآداب والفنون في حياة الأمم أمر طبيعي. وما زال الأخذ والعطاء من هذا المجال قائمين بين الهند والعالم العربي منذ أقدم العصور. وكانت الهند معروفة لدى العرب منذ أمد بعيد، ولا شك في أن التواصل التجاري بينهما قديم قدم التاريخ نفسه. وقد حافظ على ذلك كلتا الأمتين، فحظيت العلاقات الثقافية بين الهند والعالم العربي بالاهتمام نفسه. وعندما بدأ تدوين العلوم، شهدت المنطقتان تطوراً مهمّاً في علاقات التواصل التي ربطت بينهما. ويفيد التاريخ بأن العلماء والحكماء والأطباء الهنود قد اجتمعوا بعدد كبير في عاصمة الخلافة الإسلامية، في عهد الخلفاء العباسيين، وبشكل خاص في عهدي هارون الرشيد وولده المأمون، وكان فيهم مَن أفادوا فائدة كبرى من مدرسة جندي سابور في اللغتين العربية والفارسية، وبذلك أسدوا خدمات جُلّى في نقل العلوم الهندية إلى اللغة العربية. ومن أبرز هؤلاء العلماء كنكا هندي، وصالح بن بهلة، وابن دهن، وصنجهل الهندي، وبازيكر، وقلرقل، وسندباذ، وغيرهم كثيرون. وكتب ابن النديم أن مِن علماء الهند مَن وصل إلينا كتبه في النجوم والطب، أمثال باكهر، راحه، صكه، داهر، آنكو، زنكل، أريكل، جبهر، اندى، وجبارى..

منذ فجر الإسلام بدأت حركة الترجمة عن اللغات الأخرى إلى العربية، وامتدت إلى الهند في أواخر القرن الأول الهجري، واستؤنفت في منتصف القرن الثاني الهجري، ثم نشطت مرة أخرى في القرن الخامس الهجري. و ذكر بعض المؤرخين إن الهند “اشتهر بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب”(الجاحظ)، وإن “الهند لهم معرفة بالحساب والخط الهندي وأسرار الطب وعلاج فاحش الداء….” (الاصفهاني). ويُقال إن كسرى أنوشروان أرسل طبيبه برزويه إلى الهند لاستحضار كتب ومؤلفات في الطب فعاد بالكثير منها، وإن قصة كليلة ودمنة انتقلت من الهند من ضمن ما نقله برزويه من كتب، بالإضافة إلى لعبة الشطرنج.

وعندما عكف المسلمون على ترجمة كتب الفرس إلى العربية، نقلوا بين ثناياها أجزاء من ثقافة الهنود وعلومهم، وقام بعض المترجمين، أمثال منكة الهندي، وابن دهن الهندي، بنقل السنسكريتية (وهي في الأصل لغة هندية) إلى العربية مباشرة. ومن العلوم التي أخذ فيها المسلمون عن الهنود: الفلك والطب والرياضيات. فالأرقام الحسابية المستخدمة في العالم حالياً أخذها المسلمون عن الهنود وانتقلت من المسلمين إلى الغرب.

تُرجِمت كتب هندية كثيرة إلى العربية، ومنها على سبيل المثال، كتاب “سشرت سنهتا” الذي كان أول كتاب للطب الهندي تمّت ترجمته إلى العربية. وكان مؤلفه قد درس الطب على يد “ديوداس”. وهذا الكتاب يُضارع في العربية كتاب القانون لابن سينا. وقد ذكره المؤرخون العرب باسم “سسرد”، كما ذكره بعض المؤرخين العرب باسم كتاب “شرك” و”سيرك” (ورد ذكره في “الفهرست” و”عيون الأنباء” وفي تاريخ اليعقوبي). وكان هذا الكتاب قد تُرجم من السنسكريتية إلى الفارسية، ثم قام بترجمته من الفارسية إلى العربية عبد الله بن علي. ويقول بعض المؤرخين إن المترجم هو “كنكا هندي”. وهناك أيضاً كتاب “تشرك سنهتا” تأليف الطبيب المشهور”تشرك”، وكان في حاشية الملك المعروف بـ”كنشك” في الهند. وكان من معاصريه العالِمان “ناغا رنجن” الماهر في علم الكيمياء، و”آشوك هوش”. وكتاب السموم لمؤلفه الحقيقي “تشانكيه” الذي سمّاه العرب “شاناق”، وكان وزيراً لـ”تشندر غبت موريه” الذي كتب عنه ابن أبي أصيبعة في “عيون الأنباء”: “ومن المشهورين أيضاً من أطباء الهند شاناق، وكانت له معالجات وتجارب كثيرة في صناعة الطب، وتفنَّن في العلوم، وفي الحكمة، وكان بارعاً في علم النجوم، حسن الكلام، متقدماً عند ملوك الهند”.
من أهمّ مآثر العرب في العلوم المختلفة في العهد الإسلامي أنهم نقلوا الأرقام الهندية (من 1 إلى 9) إلى اللغة العربية التي امتدت إلى جميع البلاد الأخرى بواسطتهم، وكانت الأعداد تكتب في بلاد العرب وغيرها من البلاد الأخرى بالأحرف. ويسميها العرب الأرقام الهندية، لأنهم وجدوها من أهل الهند. أما أهل أوروبا فيسمّونها أرقاماً عربية لأن الرياضيات وصلت إليهم من العرب. وكان أول من تلقّى العلم على هذه الأرقام الهندية من العرب هو أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، ولذلك هناك فرع خاص بالحساب يقال في الإنجليزية Algorism لأنهم نقلوه عن الخوارزمي.

وقد نجح العرب في استخراج قواعد مفيدة في الرياضيات تتعلق بالمسائل الفلكية لم يتمكن منها اليونانيون، كالمثلثات الكروية (راجع: “علم الفلك وتاريخه عند العرب” لكرلو نلينو). وهذا العلم جاء من طريق الهند، ومصدره الأول كتاب سنسكريتي معروف باسم “برهم سداند”، الذي ألفه “برهم غبت”، مؤلف من الهند بارع في العلوم المتعددة، وكان له من العمر ثلاثين سنة فقط، وأهداه في العام 824 م إلى الملك “دياكر موكا”. وكتب القفطي عن وصول هذا الكتاب إلى بغداد.
كما أن علم الكيمياء علم عظيم عند العرب الذين صنفوا في هذا الباب كتباً كثيرة، وبلوغ أوروبا أوج الكمال في الكيمياء يعود إلى هذه الكتب أساساً. ويُنسب اختراع الكيمياء إلى الفرس عموماً، ولكن ابن النديم ضمّ إليهم أهل اليونان والهند والصين. ويدل ذلك على أن آثار هذا العلم كانت باقية في هذه البلاد منذ زمن قديم.

وفي السياسات وفن الحرب لم يُنقل من الهندية إلى العربية إلا ثلاثة كتب. أولها كتاب شاناق الهندي في أمر تدبير الحرب وما ينبغي للملك أن يتخذ من الرجال؛ وثانيهما كتاب في أمر الأساورة والطعام والسم؛ وكتاب باجهر الهندي في فراسات السيوف ونعتها وصفاتها ورسومها وعلاماتها.
وفي الهند توجد أثار علم النحو، كباقي العلوم الأخرى، منذ الزمن القديم؛ ولم يظهر علم النحو إلى حيز الوجود في العربية واللغات الأخرى إلا بعد فترة طويلة. وقد روى البيروني عن بداية علم النحو ومنطلقه رواية عجيبة توافق كل الموافقة الرواية التي رويت عن أبي الأسود الدولي في النحو ونشأته. وعلاوة على علم النحو، كانت لدى العرب رغبة أكيدة في علم العروض الهندي. وقد سلّط البيروني على هذه القضية أضواء مفصلة كتب في آخرها: “ومن الممكن أن يكون الخليل بن أحمد قد سمع أن للهند موازين في الأشعار كما ظنّ به بعض الناس”.

وممّا يجدر ذكره إن الخليل بن أحمد قد يكون استفاد من الهنود، لكن لا شك في أنه استفاد كثيراً من العلوم اللسانية السنسكريتية. وعلى كل حال كانت الفائدة التي حصلت عليها اللغة العربية من اللسانيات والآداب الهندية كبيرة جداً.

ومن الكتب التي تُرجمت إلى العربية عن الهندية في مجال الطب : كتاب “السيرك” و قد ترجم أولاً إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية من طريق عبد الله بن علي. وكتاب “سسرد” نقله منكة عن الفارسية ليحيى بن خالد البرمكي. وكتاب “أسماء عقاقير الهند” نقله منكة عن اسحق بن سليمان. وكتاب ” استنكر الجامع” نقله ابن دهن الهندي. فمن المعروف أن أطباء الهند نبغوا في استخدام الأعشاب الطبّية في مداواة الكثير من العلل وقد نقل المسلمون الكثير عن فوائد الأعشاب عن الهنود، وبعض هذه الأعشاب لم يعرفها اليونان لأنها لا تنبت إلا في أقاليم الهند وشرق آسيا، ويقال إن خالد بن يحيى البرمكي جلب بعض أطباء الهند مثل: منكة، وقلبرقل، وسندباد.. وكان الاتصال بالحضارة الهندية مصحوباً بتعريب كثير من المصطلحات والأسماء مثل زنجبيل، وكافور، وخيرزان، وفلفل..

ومن الكتب التي ترجمت إلى العربية في علم المواليد كتاب “أسرار المواليد” لمؤلفه كنكه الهندي الذي ورد ذكره في كتابَيْ “الفهرست” و”عيون الأنباء”، وكتاب “المواليد” الذي ألفه كودر الهندي، وكتاب “المواليد الكبير” الذي ألَّفه سنكل هندي، و”كتاب المواليد” لمؤلّفه براهمر. وثمة عدد لا يستهان به من الكتب الهندية التي تُرجِمت إلى العربية، ككتاب “علاجات الحبالى”، وكتاب “أسماء عقاقير الهند” لكنكه الهندي، ومن الكتب الهندية المترجَمة إلى العربية، هناك أيضاً كتاب في علاجات النساء، وهو من تأليف طبيبة الهند “روسا” التي ورد ذكرها في كتاب “الفهرست”. واستفاد الرازي من هذا الكتاب فذكره في مصنفاته. وكتاب توقشنل/ نوكشنل الذي وضعه طبيب هندي يُدعى “توقشنل”.

**********

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

(*) كاتب وأكاديمي من الهند

اترك رد