تحيا ليلى بعلبكي

 

 

   د. شربل داغر

 

ليلى بعلبكي في “أنا أحيا” (1958) جعلت من المرأة، من “امتناعها” عن تأدية أدوارها التقليدية، ومن نقد صورها الرائجة والمنمطة، غرضاً لكتابها، الذي لا نعرف أقوى منه في نوعه، على الرغم من توافر كتابات نسائية عديدة منذ ذلك العهد. يمكننا ذكر العديد من الأعمال الروائية والشعرية التي جعلت بعد هذا الكتاب من نقد الشرط النسائي، ومن سرد المكبوت والمقموع النسائي، تحت سلطة الذكر العربي، سبباً للإفصاح والإبلاغ بالتالي، مثلما نلقى ذلك في كتابات نوال السعداوي وغادة السمان وحنان الشيخ ولطفية الدليمي وفوزية أبو خالد ورجاء عالم وفوزية رشيد وغيرهن. وهي مساع مختلفة تنزع إلى مساع في الإبانة والفضح والنقد : تنتقد الذكورية العربية وتفضح سلوكياتها، وتؤسس وفق مقادير مختلفة لما شرعت به بعلبكي، وهو أن يصبح للمرأة “نرسيسيتها” في تكوين الصورة (وهو ما يفعله الرجل منذ أساطير آدم وأنكيدو وعوليس).

لم تفقد هذه الرواية، على الرغم من انقضاء أربعين عاماً على كتابتها، شيئاً من فجائيتها، من عنفيتها، وإن بدت مفتعلة في بعض الأحيان ومطلوبة لذاتها. وإذا كانت الرواية تحيل في بعض أحوال شخصياتها السياسية إلى زمن مضى (عبد الناصر والحرب الباردة وغيرها)، فإنّها تشير في السرد إلى أحوال أخرى تبدو لنا غريبة، أو باتت صعبة أو مستحيلة التصور، اليوم، في بعض بيروت على الأقل : لينا، في التاسعة عشرة من عمرها، تدرس في الجامعة الأمريكية، ابنة عائلة ميسورة، تباشر في أقسام الرواية الثلاثة في مبادرة العالم الذي يحيط بها، وهو عالَم يَعرض لها صوراً وتحديدات عن أدوارها الممكنة، وعن صورها السارية، تتصادم معها وترفضها. أنثى متبرمة، حانقة، متربصة بكل ما يصدر عن غيرها من بشر وأشياء، فتبدو الرواية فضحاً وكشفاً لمعايشات وعلاقات يومية، في العمل والبيت والجامعة والشارع والمقهى وغيرها من أمكنة الاختلاط، ونتحقق فيها من أن لينا تمتنع عما هو مرسوم لها، بل تمتنع أحياناً، كما في قصة غرامها بمناضل عربي، حتى عن العيش، عن لذتها، طالما أن المعروض لها في الحياة لا يوفر لها “أنويتها” هي، وكما تراها هي.

لهذا نقول إن لينا تؤسس لنرسيسيتها السردية بمقدار ما تنصرف إلى مواجهة ما يُقدَّم لها، على أن “حياتها” (والمعلنة مثل شعار في عنوان الرواية) هي الامتناع عن الحياة، والتنكر لما يعرض لها : مقاطع طويلة تتحدث فيها لينا عن رغبتها في صديقها، وهي معه في المقهى، من دون أن يتحقق شيء من ذلك، سوى ملامستها لجرح في صدره في إحدى السهرات : عدم الاختلاط بين الجنسين مستمر، إذن، ولكن لأسباب أخرى، تختلط وتلتبس فيه الأسباب النسائية بالأسباب الإيديولوجية. لينا تجد دائماً في واقعة اجتماعها مرة تلو مرة بحبيبها، لا في أسباب مسبقة، ما يمنعها من مباشرة الاتصال الجسدي به. هذا ما لا يتحقق للينا أبداً، لا مع هذا ولا مع غيره، وهي في ذلك تبدو “برية”، إذا جاز القول، متمنعة في أقصى معاني الامتناع، إلا أن هذا الامتناع يُبقي الجنس، بل اللذة، في دائرة الرغبات والمكبوتات بالتالي. كما نجد في اختلافات، واقعة في النزعة والموقف، بين لينا وحبيبها ما يفسر، ولو في صورة غير كافية في السرد، الامتناع هذا.

هي “فردية”، كما يحلو لها تعيين نفسها في الرواية، وهو تعيينٌ “إيديولوجي”، كما تحدده في غير موضع في الرواية : “لا يحق لي جمع نفسي مع بقية النساء، فأنا واحدة من عشر، من مئة، من مليون. أما أن أكون واحدة مع عشر، مع مئة، مع… فهذا خطأ أرتكبه”. أو تقول في موضوع آخر : “أنا لست سمراء، ولست شقراء. لا يهمني كل الرجال. ولا تغريني أية درجة ثقافية. وعبثاً أنقب في نفسي عن صلة بهؤلاء الأشخاص. فأنا اعتدت وجودهم حولي، أحتك بهم ولا أحسهم. أنظر إليهم ولا أراهم. إنهم عندي تماماً كالأشجار، والأنهار، والنجوم، والحجارة. أشياء لا تناقش، لأنها من صنع غيرنا، ولأنها معدومة الحركة لن تؤثر على الخفقان المتجدد فينا”.

تقول لينا نرسيسيتها في صورة سلبية، إذا جاز القول، أي أنها تعبر عما يصدمها في العالم كما يديره ويقترحه الذكر، فيما لا نقع إلا لماماً على صورتها هي لهذا العالم ولما تطلبه فيه. وهو تجاذبٌ نلقاه في هذا الأدب، بين فضح العالم الذكوري وبين قول الذات، منذ هذه الرواية. ويجد هذا التجاذب في التباين بين نوعين في الأدب، الشعر والسرد، ما يعززه : فالسرد ينصرف أكثر إلى فضح المستور في حياة العائلة العربية وبين الجنسين، فيما ينصرف الشعر أكثر إلى قول الذات، العاشقة خصوصاً، أو الوجودية، عند من استسغن خصوصاً القصيدة بالنثر، ووجدن في مبانيها ما يناسب قولهن أكثر من غيره من الأنواع الأدبية. فالإبانة التي يطلبها السرد تناسب الكشف عن المخفي وعرضه بالتالي، وتراكيب الشعر الحاذقة وإشعاع دلالالته الملتبس تناسب أكثر إيماءات النفس الخفية.

باتت المرأة ذاتاً وموضوعاً من دون شك، ولها صورٌ، لا أطياف، وإن تعددت الصور وتعاكست وتداخلت بين الرجل والمرأة، أو بين الأنا والآخر، وفي ذلك ما يقودنا إلى طرح أسئلة أبعد وأعمق تطاول “الإنسان” بين بيولوجيته وتاريخيته.

فلقد سبق لسيمون دو بوفوار أن كتبت، في العام 1949، في كتابها “الجنس الثاني” : “المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك”. وهو قولٌ شجع على طرح قضية المرأة، وعلى فتح مناقشات تصب في صميم الشرط الإنساني، والمسألة الثقافية : ما الإنسان ؟ ما أثر الثقافة في تشكيل تكوين الإنسان؟ وهي أسئلة لا تزال مطروحة على الأدب النسائي، كما على الفكر العربي.

هذه أسئلة نستعيدها، ونحن ننتبه إلى أن المرأة “تصير” امرأة أكثر فأكثر في الكتابة العربية، ولها صورٌ، لا أطياف، على الرغم من أن بعض الصور لا يعدو كونه صور المرأة وهي ترى إلى نفسها في المرأة التي يمسكها الرجل.

هذا ما يجعلنا نقول إن مباشرة المرأة الكتابة لا تبدو بديهية في غالب الأحيان، وليست معطاة سلفاً، وإن يبدو لنا أن إقبال النساء العربيات على الكتابة والفن عموماً يتزايد في صورة مطردة، وما كان نادراً في فترة ما بين الحربين بات “اعتيادياً” في النصف الثاني من القرن الجاري (أي العشرين)، وإن كانت الزيادات هذه لم تبلغ بعد سيطرة الرجل على ميادين الإبداع. كيف لها أن تتشكل الهوية، كيف لها أن “تُدون” – وهو تدوين غير كتابي وحسب، بل فعلي في الزمن.

للمرأة صورتها، بل صورُها، التي لا تختصرها صورها الصادرة من الرجل، والمحددة لها به. لها صور، من دون أن يكون لها – كما هو عليه الحال في صور الأدب – غير أصول ولادة وطفولة، بل لها عيش يتعدى نشأتها، ويتحدد في أطوار أخرى حين تتهيأ وتتشكل خصائصها في غير صعيد.

***

*(جزء من دراسة في مؤتمر : “خصوصية الإبداع النسوي : قضية للنقاش”، عَمان، 23-26 آب-أغسطس 1997).

اترك رد