الرئيس ميشال سليمان: أرض لبنان، كانت وستظل، وبالرغم من كل الحروب والازمات، أرض العيش الحر المشترك

sleimanليس التاريخ سوى قصّة العلاقة الازلية بين الجغرافيا والديموغرافيا. إنّها جدلية الانسان والارض. لا أحد يأتي من اللامكان، او يقيم معلّقاً بين فناء وفضاء. فالأرض هي العنصر الاساس، لتجسيد الانتماء واشهار الهوية.

ايها السيّدات والسادة، ابنائي الاحباء، الطالبات والطلاب،

لقاؤنا اليوم، حول “أرضِي غد واعد”، يجمع المعنى في المبنى. فنحن في صرحٍ منبثقٍ من مؤسسة رهبانية، بينها وبين الارض اللبنانية رابط روحي ومادي. رهبانها بنوا الاديرة على قمم الجبال وفي قعر الاودية، وفتتّوا الصخور وجلّلوا المنحدرات، حتى غدت مواقع اديارهم، كأنها ترسم خريطة لبنان الكبير. من دير السيِّدة في بلدة منجز في عكار شمالاً، الى دير سيدة البشارة في رميش جنوباً، الى عالم الانتشار. وقد قال فيهم الاديب مارون عبود، ” هم الذين صيَّروا ارض لبنان جنّة غنّاء، بعدما كانت صخوراً صمّاء، ينحدر عنها السّيل، ولا يرقى اليها الطيّر.

ايها السيّدات والسّادة

إنّ الارض والشعب والقيم المشتركة، هي الثلاثية الذهبية الدائمة للوطن، واللازمة لربط ماضيه بمستقبله. فالاحتفاظ بالارض والحفاظ عليها  واجب مقدّس، لتأكيد الوطن الواحد والنهائي لجميع ابنائه، ارضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في الدستور، والمعترف بها دولياً. وهذا لا يتعارض مع الحق في التنقل والاقامة، لا بل يحول دون التجزئة والتقسيم والتوطين، وفق الفقرة “ط” من مقدمة الدستور.
كذلك، فإنّ حماية الارض من التشويه، والسطو على الاملاك العامة، والعبث بالتراث وعشوائية العمران، ومكبات النفايات وتهديد التوازن البيئي والايكولوجي، تقتضي اعلان حال طوارئ وطنية، رسمية واهلية،  وهي الاهم من اجل بقاء لبنان.
أمّا وحدة القيم، فضمانها وحدة القانون، وعدم الاستنساب في تطبيقه، وفق الظرف والمكان، والحاجة السياسية أو الطائفية أو المناطقية. ووحدة القانون والانماء المتوازن، لا يحميها سوى المؤسسات الشرعية، التي لا شريك لها، في القرار والتنفيذ سياسياً وعسكرياً..

الحضور الكريم

لقد اراد منظمو هذا المؤتمر، إعادة الاعتبار الى فكرة العمل والانتاج، وتحديث اساليب العمل الزراعي. فمنذ اندثار اقتصاد الحرير في جبل لبنان، وتراجع المساحات المزروعة، انحصرت الافادة من قيمة الارض في المضاربات العقارية.
إن الارض، هي إرثٌ وطنيّ وجماعي، تضم رفات الاباء

والاجداد، وهي اشبه بوديعةٍ ثمينة، ينبغي الحفاظ عليها وحمايتها، وإعادة اكتشافها واستثمارها، من خلال خطةٍ تنمويةٍ شاملة، لا تتم الا برفع مستوى الانتاج المادي والصناعي والزراعي، وليس بالاتجاه الى اسواق الاسهم والمضاربات. ليس من العافية في شيء، أن تتكدّس الارصدة النقدية وتزدهر المبادلات المالية والمصرفية، على اهمية ملاءة المصارف، في حين يتراجع الانتاج الاقتصادي والزراعي والصناعي، وتُستنزف الدولة في مواردها بالرواتب، والفوائد على الدين والسندات الخارجية، ويُستنزف المجتمع في امكاناته، فتزدهر البطالة والهجرة، ويصبح التصدير الوحيد من لبنان الى خارجه، هو تصدير الابناء والادمغة والايادي العاملة.sleiman-1

لا يختصر الاقتصاد بجوانب مالية ونقدية، وليس مقبولاً ان تشكل فاتورة الاستيراد أكثر من 20 مليار دولار، وان يقتصر التصدير على  ملياري دولار. كذلك،  ليس مقبولاً ان تشكل موازنة الزراعة، نحو 1% من الموازنة العامة وقد كانت اقل من 1% بكثير.  ولا يكفي الاعتماد على الرديات المالية، والخدمات الترويجية، التي تقدمها مؤسسة ايدال ضمن برنامج EXPORT PLUS، كما ان تطبيق سياسة الحماية والدعم للقمح والشمندر السكري، ليس الحل السحري، لتحفيز العمل الزراعي وتطويره بالأساليب الحديثة التي تساهم بزيادة المحاصيل، وتقتصد في استهلاك الموارد الطبيعية واهمها المياه. ولا بد من الاشارة في هذا المجال، الى أنّ واحداً من الاسباب الاساسية، لاندلاع  حركات الاحتجاج العربية خصوصاً في سوريا، يعود الى الضغوط البيئية والمناخية والسكانية، وأهمّها الجفاف الذي ادىَّ الى نزوحٍ سكاني عن مناطق شاسعة، وتركّزٍ ضخم للكتل البشرية في احزمة بؤس حول العواصم والمدن. كذلك فإنَّ معظم النزاعات في الشرق الاوسط وافريقيا، يتمحور حول منابع المياه، كما في حوض النيل، بالإضافة الى صراعات القبائل والجماعات الاهلية، على مساحات الرعي والزراعة. من هنا، وجوب العمل الملّح، لترشيد استهلاك مياهنا، وتطوير وسائل الاستخدام والري، بالإضافة الى متابعة خطة انشاء السدود والبحيرات الاصطناعية، والتوجه نحو تصنيع المواد الزراعية كشرطٍ لازم لإنقاذ الزراعة  وتوسيعها.

وحيث أننا في مؤسسة رهبانية عريقة، أشير الى ما ورد في توصيات مجمع الكنيسة المارونية في العام 2006، عن فكرة تطوير الشراكة القديمة بين الاوقاف والاديار من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، وذلك لناحية استثمار أملاك الاديار، وإقامة تعاونيات زراعية، ومحترفات مهنية، ومصانع صغيرة، تؤدي الى تشجيع المزارعين والشباب بنوعٍ خاص، على العودة الى الريف واستغلال الارض بطريقة مجدية.

ايها السيّدات والسّادة

الاقتصاد هو جوهر السياسة، والسياسة ما هي إلا إدارة الاقتصاد، وموارد الوطن وطاقات المجتمع وإنتاجه. إن حيوية المجتمع اللبناني والمبادرات الذاتية، ساهمت بالحفاظ على حد ٍ معقول من النمو، لن يدوم طويلاً، إذا لم يتم استدراك التباطؤ والتراجع في عمل المؤسسات السياسية والادارية، في اسرع وقت ممكن. من هنا، تبرز الحاجة الماسة الى التزام الاستحقاقات الدستورية، من انتخابات رئاسية، وتشكيل حكومات فاعلة، واجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها.

وفي هذا المجال، وفي مناسبة مناقشة البيان الوزاري، أدعو الجميع، الى عدم التشبث بمعادلات خشبية جامدة تعرقل صدور هذا البيان. اما بالنسبة الى ما حصل من تجاوز للمطلب القاضي بادراج اعلان بعبدا صراحة في البيان نفسه والاكتفاء بذكر ضرورة تنفيذ مقررات هيئة الحوار الوطني التي انعقدت في القصر الجمهوري في بعبدا، اطمئنكم واؤكد لكم، ان اعلان بعبدا، اصبح من الثوابت، وبمرتبة الميثاق الوطني، وهو تالياً يسمو على البيانات الوزارية، التي ترتبط بالحكومات، وستظهر الايام، ان الجميع مستقبلاً سيحتاجون هذا الاعلان  ويطالبون بتطبيقه.

هذه الاستحقاقات ليست فقط لحفظ الامن وتسيير عجلة الدولة، بل لمواكبة العمل الدولي لمساعدتنا، واقرب مواعيده المؤتمر الثاني، للمجموعة الدولية لدعم استقرار لبنان السياسي والاقتصادي والامني، وتزخيم الصندوق الائتماني الذي اطلقه البنك الدولي ، هذا المؤتمر سينعقد في باريس الاسبوع المقبل، بعد المؤتمر الاول الذي انعقد في نيويورك في ايلول 2013 وسيعمل ايضا لايجاد حل لعودة النازحين السوريين الى ديارهم، بعد تفاقم قضيتهم، التي اضيفت على مأساة اللاجئين الفلسطينيين، التي يتحمل لبنان أعباءها منذ ستة وستين عاماً. وفي هذا السياق، ومع حفظ كامل التقدير لنظرية الاب لامنس عن الوطن الملجأ، أو مقولة ميشال شيحا عن اننا ارضٌ موعودة للأقليات القلقة، فإن تثقيل المجتمع اللبناني بنسبة من النازحين واللاجئين، توازي الثلث، قياساً على عدد السكان الاصليين، يشكل في ذاته خطراً مستداماً على الارض وثرواتها، وعلى التوازن السكاني والطائفي، والاندماج الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي. لذلك، لا بد من التأكيد على التشدد في تطبيق قانون تملك الاجانب، وعدم الالتفاف على نصوصه، بالإضافة الى عدم القبول بتوطين اللاجئين الفلسطينيين على ارضنا. كما ان اقرار المشاريع المتعلقة باللامركزية الادارية، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحريك عجلة الموازنة، والموافقة على سلسلة الرتب والرواتب، وتوسيع اقتصاد المعرفة، وتتم كذلك عبر تطبيق الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم المدرسي والجامعي، التي أقرّت في مجلس الوزراء، تحت خطة عنوانها، “جودة التعليم من اجل التنمية” ورسملة المؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة، كلها تلاقي المبادرات الذاتية والفردية وتحفّزها.

أيها الحضور الكريم

انًّ كل الجهود للثبات في الارض والتشّبث بها، وبما تحمله من تراث مادي ومعنوي، لا تكتمل إلا بإحياء الروابط بين المغتربين في بلاد الانتشار، وارض الجدود والجذور، وذلك من خلال مبادرات حكومية ونيابية، تتناول تعجيل بت آليات استعادة الجنسية، ولا اعلم اين يدور هذا المشروع في المجلس النيابي وتسجيل المغتربين، في سبيل تشجيعهم على شراء الاراضي والبيوت في الوطن الام، وإقامة مشاريع التوأمة بين أماكن اقامتهم وبلداتهم الاصلية.
هذا الارتباط الاغترابي بالمصير الوطني، يدعمه ايضاً وجوب إشتراك المنتشرين بالعملية الانتخابية. وقد اوجد قانون الانتخاب الذي اقره المجلس النيابي 2009 والحكومة السابقة، للمرة الاولى، الاطار الخاص بهذه العملية . وعلى وزير الخارجية تحدي ان يستطيع تسجيل عدد كبير من المغتربين، فلا يعقل ان يسجل فقط 10 الاف لانتخاب المغتربين، نحن نتوقع 100 الف على الاقل. واطلب من الحكومة الجديدة، ومن المجلس النيابي، المباشرة سريعاً بدرس قانون الانتخاب واقراره لتجديد الطبقة السياسية قبل نهاية الولاية الممددة للمجلس الحالي.
كما ادعو هيئة الحوار الوطني الى معاودة جلساتها بعد نيل الحكومة ثقة المجلس النيابي لمناقشة الاستراتيجية الوطنية للدفاع عن ارضنا التي تعتدي عليها اسرائيل باستمرار وتحتل اجزاء عزيزية منها كما فعلت بالامس ولمجابهة الارهاب الاجرامي وضبط السلاح المستشري في كافة المناطق، وقد قدمت تصورا بهذا الموضوع يهدف الى حشد القدرات القومية بامرة الدولة ومرجعيتها ويعتمد على تسليح الجيش اللبناني. واعتز ان مشوار تسليحه قد بدأ في عملية غير مسبوقة بدأت من الهبة السعودية وستستكمل في مؤتمرات فرنسا وايطاليا ودول اخرى ما يعطي هذا التصور صدقية كبرى وقابلية جدية للتنفيذ.

 ايها السيّدات والسّادة

أرض لبنان، كانت وستظل، وبالرغم من كل الحروب والازمات، أرض العيش الحر المشترك. لذلك ينبغي الحفاظ عليها، لتبقى الرسالة ويبقى الحوار بين الجماعات والاديان. إن المستقبل ليس معطىً حتمياً قائماً بذاته، بل هو ما نصنعه بإرادتنا. إن مبادرتكم في هذا المؤتمر تدلُ الى انه لو انتهت اشياء كثيرة، فما زال هناك، من لا يريد ان يرى في مشهد اليباس المتمدّد، إلا الارض القابلة للزرع من جديد. فلنستمر معاً في نقش الاحلام على حجارة الواقع الصعب، علَّنا نلمح قراءة املٍ قريب، في جبين الحاضر العابس.

*****

(*) كلمة ألقاها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان   في حفل افتتاح مؤتمر “ارضي: غدٌ واعد” في جامعة الروح القدس الكسليك في 28 فبراير 2014

كلام الصور

 1- 2- الرئيس سليمان يلقي كلمته

اترك رد