“حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس”

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين، كتاب روضة غنايم حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس. يقع الكتاب في 472 صفحة. ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.

الكتاب تتبعٌ لتاريخ خمسة أحياء في مدينة حيفا، هي: العتيقة، والكولونيّة الألمانية، وعبّاس، ووادي النسناس، ووادي الصليب، من خلال روايات ذاتية لأفراد سكنوا الأحياء الخمسة، يسردون تاريخ عائلاتهم وتفاصيل حياتهم اليومية؛ إذ تجمع هذه المرويات سير الناس وسيرة المدينة وفلسطين عامة، إضافة إلى صور من ألبوماتهم الشخصية تتعقب تاريخ المدينة، وتمثل انعكاسًا للتطورات التي طرأت عليها، وما شهدته من أحداث منذ نهاية الفترة العثمانية إلى أيامنا الحاضرة.

من الخاص إلى العام

قصّة حيفا شائقة وشائكة وفريدة. خاصةً، خلال الفترة الممتدة من القرن التاسع عشر إلى عام 1948 التي مرّت فيها مدينة حيفا بتغيرات عديدة بعيدة المدى؛ إذ تحولت في مدة زمنية قصيرة نسبيًا من قرية صيّادي سمك إلى مدينة صناعية متطورة، ومركز تجاري مزدهر في الشرق الأوسط؛ ففي فترة الحكم العثماني كانت الحياة بسيطة في حيفا، فلم تتمكن من جذب الناس إلى أرضها إلا في أواخر هذا العهد. وساهم في هذا التطور ميناؤها وسكة الحديد التي كانت تمر جواره، فأصبحت حيفا محورًا مهمًّا في الشرق الأوسط الذي يربط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا والجزيرة العربية، ولا سيما مع مساهمة الوافدين إليها من دول أوروبا، منهم على سبيل المثال: المستعمرون الألمان، والمبشرون الفرنسيون، والمبشرون الإيطاليون والبهائيون وغيرهم؛ فجميعهم تركوا بصمات نوعية في المدينة، في المضمار الثقافي والعمراني والاقتصادي. كان لهذه التغيرات أثر كبير في النمو السكاني في المدينة؛ إذ جاء كثيرون من سكان القرى والمدن في فلسطين، ومن البلدان العربية المجاورة: أردنيون وسوريون ولبنانيون ومصريون وسودانيون وغيرهم، باحثين عن عمل في المدينة. وجاء موظفون وعمال من اليونان وتركيا وغيرهم، فتطورت المدينة على نحوٍ موسع في ثلاثينيات القرن الماضي، فبرزت الحياة الثقافية في حيفا على نحوٍ مميز، وبدأت تنتشر دور السينما والمسارح والمقاهي والصحافة والكتب وغيرها. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد المقاهي في حيفا ما يقارب سبعين مقهى في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وهذه الحقائق كتب عنها كثيرون.

لكن كتاب حيفا في الذاكرة الشفوية يروي تاريخ المدينة عبر سرديات الناس، الميكروهيستوريا، ويسلط الضوء على قصة مدينة حيفا من زاوية مختلفة، وهي تاريخها من مخزون ذاكرة أهلها؛ أي تحولات المدينة من خلال سردية أهلها، فعلى سبيل المثال، في عدة سرديات روى الناس تجاربهم حينما تمكنوا من العودة إلى بيوتهم بعد انتهاء المعارك في عام 1948، فوصفوا حالها بعد عودتهم إليها؛ إذ تعرضت للغزو والنهب والتدمير. جاء في سردياتهم تفاصيل أكثر بهذا الشأن، فتحدثوا عمن استولى على بيوتهم، وماذا فعلوا من أجل استرجاعها.

وعادة ما تستند كتابة التاريخ إلى شهادات القادة والأعيان الذين كانوا يمثلون السكان. ففي الأدبيات التاريخية الحيفاوية منذ أعوام الانتداب إلى عام 1948، كانت هناك علاقات مباشرة بين القادة والأعيان العرب والقيادات اليهودية والبريطانيين، فلقاءاتهم وحواراتهم مدونة في كتب التاريخ والسياسة، أما صوت السكان فلم يُسمع على نحو علني. من هنا، فإن هذه الروايات تقدم صورة مقربة للتاريخ، تجعلنا نشعر بعذابات الناس الفردية التي مروا بها، ثم تنتقل إلى العذابات الجمعية، ومن خلالها يصبح التاريخ ملموسًا ومؤنسَنًا.

الأحياء مسار نكشف من خلاله تاريخ المدينة وتاريخ سكانها

أُسست الأحياء الخمسة التي يسرد كتاب حيفا في الذاكرة الشفوية قصتها في الفترة الواقعة من منتصف القرن التاسع عشر إلى عام 1948. ولم يوجد في أي مصدر تاريخي ما يوثّق رقميًا الأعوام التي أُسست فيها تلك الأحياء، كما هو حال الأحياء اليهودية التي توثق في أدبياتها العام الذي وضع فيه حجر الأساس لكل مبنى من مبانيها، عدا حي الألمانية، وهو حي غير عربي. إن الأحياء تختلف بعضها عن بعض أحيانًا، وتتشابه في أحيان أخرى، فهناك روابط تجمع بين تلك الأحياء، وفوارق كانت قائمة على الانتماءات الدينية أو العرقية أو الطبقية.

مدينة حيفا ذات طبيعة جبلية، وفي الجزء السفلي من المدينة، تركزت المتاجر والأسواق والميناء والسكة الحديدية وورشة الحرفيين، فأسس حيَّ وادي النسناس، مثلًا، سكانُه العرب المسيحيون في نهاية القرن التاسع عشر، وأغلبية من سكن الحي كانوا عائلات من الطبقة العاملة، وقسم كبير من مباني الحي الحجرية بُني بعفوية، منها ما بناه سكانها بأيديهم؛ نذكر على سبيل المثال بيت رجا بلوطين. والحي اليوم يشبه مشهدًا قرويًا، يظهر كأنه قرية عربية صغيرة في داخل المدينة الكبيرة. وأما حي عباس الذي نشأ في فترة الانتداب فقد بُني في الجزء الأوسط من الجبل، فطابع الحي كان أكثر مدنية، وإلى اليوم تشهد البيوت الحجرية الكبيرة والجميلة على وضع سكانها الأصليين، وتدل على انتمائهم إلى الطبقة الوسطى الثرية. أما العتيقة، فقامت على أنقاض حيفا القديمة أيضًا في القرن التاسع عشر، وتطورت في فترة الانتداب على إثر مرور سكة الحديد عبرها. اليوم، يوحي الحي بمكان منكوب. عُزلت الأحياء العربية على مر الأعوام عن الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال حي العتيقة يقع على البحر، وكان سكانه صيادي سمك، لكن توسيع الميناء قطع الوصول إلى البحر. واليوم يمر الحي بعملية تدمير، وقريبًا سيندثر ليقوم مكانه حي جديد.

ويعاني حي وادي الصليب المصير نفسه، وهو في حالة انقراض وطمس، فيشبه القرى المهجّرة، ويذكّر بالقرى في ضواحي القدس. أما حي الألمانية فهو مبني على النمط الأوروبي، حيث نرى بيوتًا عديدة يكتسي سطحها الحجرُ الأحمر (القرميد)، ويُستعمل القرميد في أوروبا لتسهيل عملية إنزال الثلج. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، اُتخذ قرار بهدم جزء من المباني الألمانية، فاحتجت الناس على ذلك، ونتيجة الاحتجاج قامت مساعٍ ومبادرات فردية من أجل الحفاظ على المباني، وأصبحت تعمل بصفة رسمية من خلال بلدية حيفا. هنا أيضًا نلاحظ ميزة خاصة للمدينة، حيث جمعت بعض المباني التأثيرات المعمارية الأوروبية والعربية؛ فالمنازل في المستعمرة الألمانية قد دمجت أيضًا عناصر بناء محلية مثل النوافذ الواسعة والغرف الكبيرة. إذا وقفتَ على جبل الكرمل ونظرت إلى ما أمامك، لا يمكن إنكار خصوصية مدينة حيفا، فأنت تنظر أمامك وترى في الوقت نفسه سماء وبحرًا وجبلًا، هذه ميزة خاصة بحيفا؛ فالمناظر الطبيعية الجبلية مرئية في كل مكان على الرغم من كثافة البناء.

وبمتابعة قصص الساردين حتى يومنا هذا، يظهر مصير الناس إلى ما بعد النكبة، فالتاريخ لا ينتهي عند نقطة زمنية معينة وهناك استمرارية للحياة. فكتاب حيفا في الذاكرة الشفوية يمثل كشف الستار عمّا حدث في الماضي، وهو تجربة كتابة المدينة بأسلوب مختلف، وربما يكون ملهمًا لما يجب أن نفعله اليوم، وذلك بالنظر إلى التدمير المستمر الذي يهدد الوجود الفلسطيني، على نحو ما نجد من تدميرٍ لأحياء حيفا واستمرار في تهويد المكان، وتهميش اللغة العربية والثقافة الفلسطينية في المدينة.

ثمة صعوبات وتحديات اجتماعية عديدة لا يزال يواجهها أفراد المجتمع الفلسطيني حتى يومنا هذا، أحدها، التمايز الطبقي الظاهر بين سكان القرى والمدن؛ إذ تحرص العائلات الميسورة في مدينة حيفا – نموذجًا لبقية المدن الفلسطينية – على حفظ مكانتها المترفعة عن الانصهار بعلاقات طويلة الأمد مع أبناء الطبقات الأقل شأنًا، وهو ما تعكسه بوضوح ظاهرة النساء العزباوات اللواتي تراوح أعمارهن اليوم بين السبعين والثمانين؛ إذ ترجع علة عدم زواجهن إلى فكرة طبقية لم تُلغها ظروف الحرب والتهجير؛ فحين اضطرت بعض العائلات الفلسطينية من الطبقتين الأرستقراطية والوسطى إلى ترك البلاد، ظلّت عائلات أخرى في المدينة، وكان يصعب على العائلة تزويج بناتها ممن هم أقل مكانة.

ولّدت هذه التجارب لديّ تساؤلات عن مفهوم الوطن، ومعنى أن يكون الفرد فلسطينيًا. ووجدت الإجابات في المقابلات التي أجريتها مع الناس، وعبر ألبومات الصور العائلية الخاصة بهم، وفي ثنايا جدران بيوتهم، حيث تمكنت من إعادة تشكيل الماضي الذي كان حاضرًا حيًا يومًا ما، ثم صار حنينًا وذكريات؛ فخلال تلك المقابلات أصبحت البلاد مكانًا ملموسًا، ووجدت أن فلسطين التي نستحضرها غالبًا أشبه بظل مبهم ينعكس في حياة الناس اليومية؛ فهي أصواتهم التي تملأ الأسواق، وشكل الحياة في الميناء وعلى الطرقات، وهي اللغة العربية التي ظلت سائدة منذ قرون في البلاد، والطبيعة التي نراها خلابة في جبالها وسهولها وترابها وبحرها وهوائها. فلسطين هي أسماء العائلات، وأسماء المدن والقرى والأحياء الباقية، وفي المقابل هي الشوارع التي طُمست أسماؤها، والأحلام التي انقطعت وتلاشت. هي روايات الناس الذين عاشوا يحملون ذكرياتهم، وهذه الروايات تمثّل شهادة حية عنها.

يعرض حيفا في الذاكرة الشفوية، بطريقة مباشرة، نحو أربع وأربعين سردية شفوية تمثل شهادات دامغة تشهد على تهجير العرب قسرًا، وحتى إن “هرب” بعضهم، فإن هروبهم كان قسريًا في حالة حرب، وكانوا على يقين بالعودة، فالهروب في تعريف القانون الدولي يُعتبر طردًا أو تهجيرًا؛ إذ جاء في نصه تعريف “التهجير القسري بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. فالتهجير القسري هو ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات شبه عسكرية، أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلًا منها، ويكون التهجير القسري إما مباشرًا، أي ترحيل السكان من مناطق سكناهم بالقوة، أو غير مباشر عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة”.

روضة غنايم

باحثة فلسطينية تعيش في مدينة حيفا. شاركت صورها الفنية والتوثيقية في معارض عدة. تحاضر في جامعات ومراكز ثقافية في موضوعات: الهوية والانتماء، وأنسنة المكان والزمان. تُرشد جولات تثقيفية في مدينة حيفا ضمن مشروعها “حي وزقاق”، والذي يشمل محاضرات وورشات عمل في موضوعَي مذكرات الناس والتاريخ الشفوي.

اترك رد