مسافات: منيرة مصباح

 

التراث الإنساني في “ألف ليلة وليلة”

 

                          شهرزاد نموذجًا

 

 

 

يعتبر الموقف من التراث قضية تاريخية مهمة في اطار النهل منه والحفاظ عليه لانه تعبيرا عن ثقافة وحضارة المجتمع في كافة مراحل تكوناته وتحولاته الفكرية وممارساته الاجتماعية.

واذا تكلمنا عن التراث الادبي العربي فلا بد لنا من ان نرجع دائما الى احد اهم المنابع لهذا التراث وهو كتاب الف ليلة وليلة. واذا كان هذا الكتاب هو ذروة القص العربي كما يقول الكاتب جمال الغيطاني، لانه يعتبره ميراث ثقافي وفني داخل في عناصر تكوين الثقافة العربية، التي تنتمي الى حقب تاريخية مختلفة وديانات متعددة وحضارات متعاقبة ومتجاورة ومؤثرات وافدة ومتفاعلة من ثقافات اخرى، فان للثقافة العربية الاسلامية اكبر الاثر في تكوين فكر وخيال السرد في حكايات الف ليلة وليلة وما تبعها من عبر وحكم وحلول للسائد من المشاكل في المجتمعات الشرقية والتي تعتبر ذكورية في نفس الوقت. كما اننا نكتشف من حكايات الف ليلة وليلة ان نساء هذه الحكايات هم خبيرات في جميع فنون المكائد والمكر والحيل لكننا في نفس الوقت نرى شهرزاد الخبيرة والعالمة بكافة جوانب المعرفة لاطلاعها على كتب الفلسفة والطب والسياسة والتاريخ،وكانت تستلهم هذا المخزون المعرفي لسرده في الحكايات على شهريار الرجل الميت والقاسي القلب والذي يريد ان يقودها نحو الموت. لذلك كان في عقلها استراتيجية تعتمد فيها على برنامج خططت له بتصميم جيد، وهو ان تحكي وتتوقف في منتصف الحكاية عند الصباح ليبقى الملك منتظرا النهاية في الليلة التالية الى ان اصبحت الف ليلة وليلة.

ان الف ليلة وليلة هي احد اعمدة التراث الانساني وليس العربي فقط لما تحمله في طيات لياليها من انفتاح على ثقافات انسانية مختلفة تضيئ عبر ازمان عديدة.

وكما يقول هاني الراهب فان كتاب الليالي هو كتاب عن الزمن أساسا لكنه ليس زمنا في المطلق او في فضاءات الذهن المجرد. انه الزمن العربي والاسلامي بالتحديد. انه الاكثر تعبيرا عن صراعات الانسان وتجربته، لتقدم لك التجارب على  انها ابدا قائمة. ان زمن شهرزاد يتطاول ويتمادى ويغطي كل تاريخ حتى يومنا هذا في المجتمعات الاسلامية والشرقية بشكل عام. وهذا ما جاء في الكثير من حكايات شهرزاد.

والراوي لألف ليلة وليلة بالتأكيد قد رأى أخطاء السلطة في عصره وتجاوزات الخلفاء للشرعي والأخلاقي، فعمد الى تبني أفكار مضادة لأيديولوجيا الدولة، وأضفى على تاريخ الدولة في عصره سردا نأى به عن الحدث التاريخي بواقعيته وحقيقة أبطاله وسيرتهم التاريخية. لكن ايديولوجيا الراوي لم تكن فردية، إنما عبّرت عن رغبة المستضعفين والمرأة من الفئات المستضعفة في المجتمعات الشرقية. لذلك نفهم من “ألف ليلة وليلة” طبيعة المجتمع والانسان فيه والحضارات والمعتقدات التي سادت تلك المجتمعات وقيمها وأعرافها وأنظمتها الفكرية رغم التخييلي والخارق في الحكايات المستمدة من الواقع وإشكالاته في عصر كتابة هذا الكتاب.

شهرزاد الحكاية

شهرزاد الحكاية كانت مثالا للمرأة المتمردة على علاقات قصور الحريم ونظمها وقوانينها وضوابطها. كما كانت مثالا للمرأة الجميلة، في حكاياتها الليلية تفضح وتعري وتصف ادق خصوصيات النساء. وكانت ذكية عالمة حكيمة ومهذبة،  لذلك سحرت شهريار وخلبت لبه بحكاياتها، التي كانت تستقيها من الكتب التي قرأتها والتواريخ وسيِر الملوك وأخبار الامم والشعوب السابقة والشعراء. وفي الوقت نفسه ظلت مثالا للجمال الشرقي والمعرفة والحكمة والذكاء حتى اصبحت اسطورة يستوحى منها كل الأعمال الكبرى في العالم.

واذا نظرنا الى رموز ودلالات الشخوص في حكايات الف ليلة وليلة، وحصريا شخصيتي شهرزاد وشهريار، نرى انهما يشتريان الحياة وهما يتبادلان الموت، الموت الفعلي الذي تنتظره شهرزاد وتعمل في استراتيجيتين متوازيتين معا على الخلاص منه،والموت المعنوي الروحي لشهريار، وهما ينسجان مصيرهما الوجودي البقائي بينما شهرزاد تحيك مصائر البشر في الحكايات.

لقد قدمت شهرزاد في الحكايات تحريضا استفزازيا للوصول الى نوع من المعرفة عن زمن يعيد اكتشاف نفسه ومعتقداته كلما بدأت في رواية حكاية جديدة، لكن يبقى هناك سؤال يتبادر الينا دائما في حصر العنوان بالرقم “ألف ليلة وليلة”.

هذا السؤال يفتح النافذة على الزمن لنعود الى الراوي الذي يقول في نهاية الرواية وبعد القصة الأخيرة لشهرزاد: كانت شهرزاد قد انجبت من الملك شهريار ثلاثة أولاد واحد يمشي وواحد يحبو والثالث يرضع، حيث تقول للخدم: هاتو اولادي الثلاثة، هكذا اعطى الراوي الإشارة لشهرزاد لنفهم تفسير الرقم “الف ليلة وليلة”.

اترك رد