تثبيت الطائف وتطبيقه (*)

بقلم: د.عبدالله بوحبيب 

لقّب المفكّر اللبناني الأستاذ منح الصلح النظام السياسي الذي هيمن على الجمهورية اللبنانية الثانية بـ”المارونيةالسياسية”، واستمرت تلك الفترة abdallah-bou-habib-1من العام 1943 إلى 1975.وبالرغم من أنه كان للرئيس الماروني كل الصلاحيات خاصة في ما يتعلق بتأليف الحكومات وقانون الانتخابات والسياسة الخارجية والدفاع والأمن وحتى تعيين كبار الموظفين، إلا أنه كان لرئيس الحكومة، وإلى حد أقل رئيس مجلس النواب، قسط كبير من المشاركة وهناك أمثلة كثيرة لتبيان ذلك.

إن فترة حرب الـ1975 هي قانونياً تابعة للمارونية السياسية ولكنها بالفعل مرحلة لا أحد، أو بالأحرى مرحلة الميليشيات والفوضى. الجمهورية الثالثة التي أتى بها مؤتمر الطائف (1990 لغايته) هي بامتياز فترة “السنية والشيعية السياسية”. فمنذ العام 1990 وإلى 2005 غابت القيادات الحزبية المسيحية عن الساحة السياسية واكتفى رئيس الجمهورية الماروني بتسمية وزير واحد أو اثنين على الأكثر، بينما كان رئيسا مجلسي النواب والحكومة والزعيم الدرزي يسمون معظم وزراء مذاهبهم بالإضافة إلى وزراء مسيحيين، في حكومات بلغ عديد كل منها 30 وزيراً.

طبعاً كانت حصة الأسد للنظام السوري و”مفوضيه السامين” في لبنان. لكن، “السنية والشيعية السياسية” هيمنتا على مرافق الدولة اللبنانية كاملة في فترة الوصاية السورية وأصبح معروفاً، بنظر معظم المسيحيين: “ما لهم لهم؛ وما لنا لنا ولهم”.

واستمرت هيمنة “السنية والشيعية السياسية” بعد انتهاء فترة الوصاية السورية. فقبل الانتخابات النيابية في ربيع 2005 تمّ اتفاق الأحزاب الأربعة للمذاهب الإسلامية (ومن ضمنها الدروز) في ما سُمّي بـ”الحلف الرباعي” وأصرّوا على إجراء الانتخابات بقانون العام 2000 الذي فرضه “المفوض السامي السوري” غازي كنعان، وذلك برغم معارضة مسيحية قوية عبّر عنها رئيس الجمهورية والبطريركية المارونية. ثم قام الحلف الرباعي بتأليف حكومة تمثل فيها حزبان مسيحيان رئيسيان بوزيرين وحقيبتين ثانويتين، وأُعطي رئيس الجمهورية عملياً وزيراً واحداً للدولة.

وبالطبع فإن الخلاف السني ـ الشيعي الذي انفجر بعد منتصف العقد الماضي في لبنان والمنطقة قد سمح للمسيحيين المشاركة في مجلس الوزراء واستطاعوا أن يجاروا ولو جزئياً زعماء المذاهب الإسلامية في تسمية وزرائهم. لكن خلافاتهم السياسية منعتهم في غالب الأحيان من تسمية كبار الموظفين في الدولة، بينما استطاعت أحادية التمثيل السياسي عند المذاهب الإسلامية الثلاثة أن تفرض على مجلس الوزراء مرشحيها من كبار الموظفين.

 نقل اتفاق الطائف قانونياً السلطة الإجرائية من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. لكن في التطبيق هناك احتكار لأعمال مجلس النواب من الطائفة الشيعية واحتكار الطائفة السنية لأعمال مجلس الوزراء. ويتبيّن ذلك جلياً من ممارسات رئاستي المجلسين ومن سيطرة كل منهما على أعمال مؤسسته حيث طغى طابع كل من الطائفتين على الأمور داخل المؤسسة وفي علاقتها مع الآخرين. بكلام آخر، إن أمور الدولة اللبنانية أصبحت مرتهنة لرئاستي مجلسي النواب والوزراء بدلاً من أن تكون في المجلسين.

بدأ هذا الوضع مع الوصاية السورية وبعد انتخابات 1992 واستمر وتجذر بعد انتهاء هذه الوصاية. لذلك لا يمكننا أن نضع اللوم الكامل في شأن انعدام التوازن الطائفي الذي دعا إليه ميثاق التوافق الوطني على الوصاية السورية. لكن دون شك وضعت الوصاية السورية حجر الأساس لهيمنة المذاهب الإسلامية السياسية من خلال إقرار قوانين انتخابات تفرز تمثيلاً أحادياً لكل من هذه المذاهب، بالإضافة إلى سيطرة المذاهب الإسلامية على نصف المقاعد المسيحية والمقعدين العلويين.

 واليوم أوصل الصراع السني ـ الشيعي لبنان إلى الهاوية. فمجلسا النواب والوزراء معطّلان ورئاسة الجمهورية عاجزة عن تفعيل هاتين المؤسستين بسبب الارتباطات الخارجية لكل منهما.

إن قدرة كل من السنة والشيعة على التعطيل ناتجة عن أحادية التمثيل لكل منهما. إن قوانين الانتخابات منذ العام 1992 حرمت لبنان من ممارسة الحياة الديموقراطية لأن جميعها أفرزت مجالس نيابية غابت عنها الميثاقية الوطنية ـ أي أن التكتل النيابي الفائز في الانتخابات لا يستطيع أن يشكل حكومة من صفوفه لأنها تعاكس متطلبات «العيش المشترك» الذي يدعو له الدستور والميثاق، كما حدث بعد انتخابات 2009.

 من هنا الحاجة الماسة إلى قانون جديد للانتخابات يعطي لبنان ميثاقية وطنية، ويسمح للبنانيين بممارسة أوسع للديموقراطية. بالإضافة إلى ذلك، على قانون الانتخابات المرتجى أن يحقق الميثاقية الطائفية، أي أن يمثل نواب الأمة بالفعل المكوّنات اللبنانية. كذلك على القانون المرتجى أن يحقق التنافس الحقيقي في كل الدوائر الانتخابية، وألا يقتصر التنافس على بضع دوائر معظم ناخبيها من الطوائف المسيحية، كما هو الحال من جراء تطبيق القانون الحالي.

إن هذه المبادئ والأهداف يمكن أن تتحقق من خلال قانون للانتخابات يعتمد الدائرة الفردية أو لكل ناخب صوت واحد، أو بالنسبية المعتمدة في معظم الدول التعددية. لكن الاتفاق على قانون حديث يعزز الديموقراطية يتطلب تمثيلاً حقيقياً وعملياً للمكوّنات اللبنانية وأن ذلك يتحقق باعتماد مشروع قانون الانتخابات المقدم من اللقاء الأرثوذكسي وذلك لدورة واحدة فقط. بكلام آخر، يتحوّل مجلس النواب المنتخب حسب المشروع الأرثوذكسي إلى مجلس شبه تأسيسي يثبّت اتفاق الطائف ويحل القضايا العالقة بين اللبنانيين، ومنها سياسة الدفاع، واللامركزية الإدارية الموسعة، والسياسة الخارجية وطبعاً قانون حديث للانتخابات يعيد السلطة والقرار إلى مجلس الوزراء ويجعل من مجلس النواب سلطة تشريع ومساءلة ومحاسبة.

************

 (*) السفير، الخميس 28 نوفمبر 2013

اترك رد