في حضرة مسرح التّنوير

                         

تفلحُ مسرحية بيلاطس البنطيّ، التي تعرضُ على مسرح المركز الثقافي الرّوسي في  فردان لغاية 8 نيسان 2018، أقول تفلح هذه المسرحية المقتبسة من أجزاء من رواية ” المعلم ومارغريتا” للكاتب الروسي العالمي ميخائيل بولغاكوف، في إنتاج طقس القساوة الموازية لعنف الحدث التاريخي الذي أجادت احياءَه ومحاكاته فنيّاً.

بسينوغرافيا موقّعة، بتقنية عالية، من قبل مُعدّ النّص المسرحي ومخرجه البروفسور طلال درجاني، يتمّ تأطير حركة الممثلين وبلورتها، بتوظيف ذكي لمكونات مكانية تأثيثية بسيطة، وشديدة الطواعية  مكّنت من توليد الإيحاء الدلاليّ المُحيل على بقعة جغرافية مشحونة ببعديها الزمني والروحي، عنيت ” أورشليم ” المدينة/المسرح لمأساة إنسانية مفجعة؛ مأساة صلب السيد المسيح، وما استتبع ذلك من عذابات إنسانية لا تعرف الانتهاء.

لعلّ أكثر ما يفاجئك، كمُشاهد لهذه المسرحية، هو هذه الطاقة الحرفية التمثيلية العالية التي يبرزها الفنان والمطرب خالد العبدلله، إذ تعاين هذا الفنان الأصيل، وهو يجيد لعبة القفز النفسيّ والتمظهر الجسديّ ما بين حالين نقيضين، هما حال الحاكم المتسلّط الحريص على مصالح الإمبراطور المطلق السلطة، الممتنع التسامح مع هفوات وأخطاء المتطاولين من ناحية، وحال الإنسان المتجبر الذي انهزم أمام ضميره المستيقظ بعد إغفاء، المتألم من اتخاذه قرار صلب النّاصري من ناحية ثانية؛ قرارٌ يبدو، وكأنه خرج على حين غفلة منه، تحت وطأة تأثير رجال الكهنوت اليهودي، وعندما أفاق صاحبه من غفوته صعقه ما اقترفه لسانه من جرم مشين!

قبالة عبدالله ينهض الممثل والأكاديميّ هشام أبو سليمان بدور “متّى”،  أحد تلاميذ السيد المسيح الأوفياء؛ تلميذٌ أخفق في إنقاذ سيده، فراح يتساءل عن مغزى غياب الرحمة الإلهية  المتجلية في تأخر موت المسيح المعلّق على صليب آلامه وأوجاعه.

يتمّ توقيع الحوارية المتناوبة بين هاتين الشخصيتين الرئيسيتين وفق حركة بطيئة مجسّدة لألام المسيح ( الممثل ماجد زغيب)، حبّذا لو كان أنحف قليلاً، وهو يصلب، وهو يرفَع على خشبة مدمّاة، حركية جسدية تنجحُ في نقلٍ صامتٍ لفظاعة الحدث الذي أفسد على بيلاطس اطمئنانه وتوازنه النفسي.

وإذا كانت موسيقى العرض الجنائزية، لتشايكوفسكي، قد أضفت على المسرح مهابة وطقساً تراجيدياً شجياً، فإنّ صوت خالد عبدالله الرّخيم، بطبقاته المطواعة، قد أبدع في نقل أعلى درجات الصّلف والتحدي البشري، وأقسى حالات الألم والنزف الجنوني حين تتدنى الذات البشرية، ويتردى حسّها الإنسانيّ.

نسأل أنفسنا، ونحن مسمّرون على مقاعد المسرح، نشاهد ونتأسى: لماذا يستعيد طلال درجاني هذه الفاجعة التّاريخية، فاجعة صلب السيد المسيح في أورشليم، بكلّ إيحاءاتها وقساوتها وجراحاتها النفسية والجسدية والعقائدية؟

لماذا هذا الإصرار على العودة أبداً إلى هذا الموطن الجغرافيّ من الأرض، منبع الألام والهزائم التي لا تريد الانتهاء؟ ولمَ هذا التوقيت بالذات للثقافي /التاريخي يعيد إلى الأذهان بعضَ ما كان ممّا يحاول الآخرون تجاوزه، على الرغم من وطأته وبصمتِه التي لا تُمحى من أذهان البشرية جميعها؟ نتساءل عن هذه العلاقة التي لا تريد أن تستوي، بين سلطة جائرة لا تقبل صوتَ الاختلاف عنها، حتى ولو كان هذا الصوت صوتاً داعياً إلى الحق، والحبّ والسلام لابن الإنسان؟!

اترك رد