إيلي مارون خليل (23)

 

            

أن تحيا بحثًا عن الحُبّ، هروبٌ من الموت!

أن تحيا بحثًا عن حُبّ، هروبٌ إلى الموت!

ألهروبُ من الموت، هروبٌ إليه؛ والهروبُ إلى الموت، هروبٌ منه!

موتٌ بموت! مع ذلك، تستمرّ، فرِحًا، تفكّر في ما تريده الأكثر أهمّيّةً: ألحبّ!

إنّما البحثُ عن “الحُبّ” بالمطلَق، لا يوصلُك إلى مكان. إستحالةُ بحث. لا وجودَ لـ”المطلَق”، إلّا في الفكرِ، في الحُلم، في الظّنّ. ما يجعلك تحيا. شبه حياة!؟ ألحياةُ فِكْرًا، حُلُمًا، ظنًّا، أَلَذُّ من الموت! ألَذُّ من استحالتِها!

والبحثُ عن “حُبّ”، حُبٍّ وحيد، مُحَدَّد، هو الّذي يوصلُك. يوصلُك إلى حيث ترغبُ. فإنّكَ لَتجِدُ حبيبًا. فالحبيبُ موجودٌ حقًّا. موجودٌ في الواقع. أنت أمامه، وهو أمامك. أنت في حضرته، وهو في حضرتك. تنصهر فيه، ينصهر فيك. تذوبُ فيه، وهو، فيك، يذوب. نوعٌ من الفناء، أحدِكما في الآخَر. شكلٌ من أشكال الموت، هو الّذي يعمل على الانبعاث الحَيِّ أبَدًا. إنّه الموتُ ـ الحياة.                    

ألحُبُّ، بالمُطلَق، عامٌّ، شُموليٌّ، لا تفاصيل فيه، ولا مميّزات. فهو، عند الكلّ، شبيهٌ بما عند الكلّ. فكيف!؟ بين الحُبُّ لحبيبٍ، تكريسٌ للاثنَين معًا. كلٌّ حبيبُ الآخَر. كلٌّ كرّسَ ذاتَه للآخَر. كلٌّ يُكرِّسُ حُبَّه ويُسقِطُه على الآخَر. لكنَّ كلَّ حُبّ مُمَيَّزٌ مُمَيِّزٌ؛ مميَّزٌ في ذاته، في كينونته، ومميِّزٌ للحبيب في ذاته، في كينونته. ما يجعلُه حقيقيًّا، واقعيًّا.

يتوق الحُبُّ، دائمًا يتوقُ، إلى تجاوز ذاته وحدودِه. في هذا تَحَدٍّ، وأيُّ تَحَدٍّ! وينجحُ الحُبُّ. وكذلك يحنّ الحبيب إلى تخطّي التّرابِ، فيه، وبقيّةِ العناصر. وينجح الحبيب. ألحبيبُ يُحِبُّ ويُحَبُّ!

يُسمّى هذا فيضَ حُبٍّ. حين يمتلئ الحبيبُ بحُبّ حبيبِه، يثق بذاته وبحبيبه. ألثّقةُ دعامةٌ أساسيّةٌ، حقيقيّةٌ للحبيب ولحبّه. ويَعي مسؤوليّتَه تجاه حبيبِه، ويعي هذا مسؤوليّتَه تجاه ذاك. وعْيُ المسؤوليّةِ، هو أيضًا، رعايةٌ للحبيب وللحُبّ. ويُثَمِّرُ حُبَّه الحبيبُ لحبيبه، وكذلك الحبيبُ الآخَرُ، فيُثمر حُبُّهما لبعضِهِما مَزيدًا من ثمار الرّوح. تَثميرُ الحُبّ استغراقٌ في حبّ الآخَر، يستجيبُ لمناشَداتٍ لا جفافَ لها،لا انقِطاع؛ لشَغَفٍ لا انطفاءَ فيه، لا جمود؛ ويستمرّ حُبٌّ هذه بعضُ صفاته، صُعُدًا في سُبُلِ الرُّقيّ الصّارخِ النّاهدِ إلى مَزيدٍ من الوجودِ الّلطيفِ الشّفيفِ الرّهيفِ، ما يُعَمِّقُ الحُبَّ وثقافةَ الحُبِّ.

ثقافةُ الحُبّ!؟ إنّها القِيَمُ الّتي تزيّن أخلاقَ المُحِبّين في حياتهم وعوائدهم وتقاليدهم، كما في نفسيّاتهم وشخصيّاتهم وتَصَرُّفاتِهم. فحياتُهم فرحٌ يتتابع، وعاداتٌ ترقى، وتقاليدُ تَجْمُلُ؛ ونفسيّاتُهم تسمو، وشخصيّاتُهم تشفُّ، وتصرفاتُهم ترقُّ! يُغرَمُ بهم مَن إلى قربهم، أو يعرفُهم، أو يختلط بهم. وهم يُغرَمون بمَن إلى قربهم، أو يعرفُهم، أو يختلِطُ بهم. وهكذا تسيطرُ ثقافةُ الحُبّ فيرقى، لا المُحِبّون وحدهم، بل أهلُ مجتمعهم، وتاليًا نَمَطُ حياتِهم، وجوهرُ حضارتِهم.

ما هذا الّذي يحصُل من دون انتظارٍ!؟ أهو، فعلا، يأتي بلا انتظار!؟ أم نحن نُمضي العمرَ، العمرَ كلَّه، ننتظرُه، ويأتي من دون شعورٍ أنّه حدث؟ وكيف نعرفُ أنّه أتى، حصل، حدث!؟ هل نتيقّن أنّه… كيف؟

أشعر أنّه، وأنا في منتهى الحالة، وأكون حالِمًا، رائقا، في منتهى الصّفاء، أكون في ملء انتظاري للحبّ مُتَجَسِّدًا في حبيب به حلُمتُ وأستمرّ أحلم، حتّى لَيتجسّدا! وأحدسُ: ها قد أتت الحالةُ. فأنتشي مُستغرِقًا، مُتَلَوّيًا، مُنصَهِرًا، ذائبًا، فائضًا…

… وأستمرُّ أنتظرُ!

السّبت 6- 8- 2016

اترك رد