بأيّ قوة نحملُ هذا اليَأس؟

الشاعر المغربي محمد بنيس

1

تعيش الثقافة العربية الحديثة، كما يعيش مشروعها، تمزقات ليست بالعابرة. كل مثقف يتتبع الوقائع يحس mohammed bennisبأن ما يحصل، هناك وهنا، لم يكن من الممكن توقعه على نحو ما هي عليه هذه الثقافة اليوم. وأسمع هاجساً بداخلي: أما زلت تتكلم عن الثقافة؟ والثقافة العربية الحديثة، بالخصوص؟

يعيد عليّ السؤال نفسه. وأنا أنصت إليه، قادماً من مناطق يصعب تعيين مسافة بعدها، لشدة ما أصبحت عليه صورة هذه الثقافية من شحوب. إنها تكاد تكون من صور الوهم الذي يؤدي أحياناً إلى الجنون. يثقل لساني، وعلى شفتي يحط صمت أبكم.

2

يدعوني الحاضر إلى النظر في الحاضر، وهو يتجسّد في بلاد عربية أحسها تتخلى عن تاريخها الحديث. النظر في الحاضر يتطلب قدرة على مواجهة وقائع تمزقات الثقافة، التي أصبحنا نلتقي بها على نحو تلقائي في حياتنا اليومية. ولا أدري معها بأي من الكلمات أبدأ، ولا أي نقطة أعتمدها للانطلاق في معرفة هذا الذي يتمزق، بغير إرادة ولا اختيار. ولكن الهاجس الذي يذهب ويعود هو ما أتتبع صوته الخافت. لا يهم ما الذي يفضي إليه، بقدر ما يعني أنه النداء الوحيد الذي يشدني إلى الوقائع. حقاً، لا أفاجأ بشيء من هذا الذي يحدث، ولكني مع ذلك لا أقبله. عدم القبول يعبر عنه سؤال من حجم مختلف : لماذا يحدث هذا الذي يحدث ؟ أو، بصيغة أخرى، لماذا انتهى كل هذا الحلم الكبير في الانتقال إلى زمن تصبح فيه الثقافة ضرورة لبناء إنسان عربي جديد؟

3

حديثي عن الثقافة ينصبُّ مباشرة على الثقافة العربية اليوم. لا أخترع شيئاً من هذا الذي يحدث. إنني فقط أسمي ما أتتبعه من وقائع. ولي ألا أتعثر في النطق بالكلمات، لأن وضع الثقافة العربية الحديثة يبدو من وراء حجاب، تم إسداله في شتى المناسبات، لننسى بكل هدوء هذا الذي يحدث. لا أريد أن أفرق بين بلد وبلد. فالوضعية تتشابه بين البلدان جميعاً، رغم الفروقات الضئيلة . لا تنقص التسمية كما لا تختفي المظاهر. يتساوى في الملاحظة أن أنظر بعين المواطن العادي أو بعين المثقف. ودرجة المعرفة في الرؤية والتحليل هي ما يفرق بين المواطن العادي والمثقف.

أذكر هذا وأنا أدرك، إدراك الملاحظ المسؤول، أن هناك من هذه البلدان من ينعم بالاستقرار، الذي لا تتوفر عليه بلدان أخرى في زمن الفتنة. وأتمنى للبلدان المستقرة دوام ما هي عليه. لكن ما أتمناه يتحول أحياناً إلى سراب، عندما تتوارد الأخبار وتتكاثر عن الخوف من الأيام القادمة. وعليّ أن أوضح بأن سبب تمزقات الثقافة العربية الحديثة هو أن وضعيتها موسومة بالهامشية في مختلف البلدان العربية. لا وعيد من وراء قول كهذا ولا ترهيب. هي مجرد ملاحظة، أسجلها لنفسي ولمن يمكن أن يتقاسمها معي، في لحظة تأمل الوقائع المتتالية لهذه الثقافة. أسجلها، لأنني أرى أن كل محاولة لفهم وتفسير الوقائع يبدأ من الملاحظة. ولا تكون الملاحظة ذات فائدة إن هي لم تكن مجردة من كل عاطفة، ومن كل أفكار مسبقة أو قناعات، مهما كانت طبيعتها. الملاحظة تحتاج إلى استعداد نفسي وإلى أدوات معرفية. وهي تفيد أن الوقائع أسبق من تبريرها، وأن التصريح بها خطوة أولى على مصداقية ما نقبل عليه من التأمل والتحليل.

4

لن نعدم من بيننا من يقرون بهذا الذي يحدث، بهذه الوقائع المتصلة بعضها ببعض، في حقل الثقافة العربية الحديثة. إن تعيين الثقافة المقصودة بصفة أنها الثقافة العربية الحديثة يرفع التباسات. منها أن الثقافة متعددة، وأنها في العالم العربي متوفرة بهذا القدر أو ذاك. توضيح أوّلي يساعد على الاقتراب من الوقائع التي تعنيني عندما أذكر بالتحديد الثقافة العربية الحديثة.

هناك بطبيعة الحال الثقافة العربية التقليدية. وهي التي تملك المجالات الأوسع في الحياة العامة وفي برامج المؤسسات. إنها قاعدة بملابسها الفضفاضة في مكانها الوثير، مستريحة، تنتظر كأس الشاي في موعده، والكسل في موعده، والأوراق الرسمية والخواتم وحفلات الاستقبال في مواعيدها، وتغطيات إعلامية في نشرات الأخبار، بدون موعد ولا حدَث. ولك أن تذكر ما لا تراه الأنسب لما تعيش وترى.

وهناك أيضاً الثقافة الأجنبية التي ينشط في الإشراف عليها وتنفيذها خبراء أجانب، عبر مؤسسات أجنبية، مدفوعة الأجر. وهي تعمل تحت شعار الانفتاح على الثقافات الأخرى، أو الحوار مع الثقافات الأخرى. ويستعمل عند الضرورة مصطلح أصبح مرغوباً فيه، هو ثقافة التسامح. من هذه الثقافة ما هو مفيد جداً لجميع الشعوب، وهي تحتاج إليه في الحرص على الانفتاح والحوار والتسامح. على أن السياق الذي تشرع فيه هذه الثقافة أبوابها في وجه الجمهور المحلي، في العالم العربي، هو ما يصطلح عليه، في العرف الدبلوماسي، بمصلحة الدولة. لا شيء من هذه الأنشطة يتم بطريقة عفوية أو بدافع من طيش. كل نشاط موزون ومحسوب. وفي عرض أنشطة كهذه تتكاثر الأسئلة عن معنى مثل هذه الثقافة. من حق كل بلد أجنبي أن يعرّف بثقافته خارج البلد، وتلك من مهام مؤسساته الرسمية. على أن دلالة هذه الأنشطة تختلف من جهة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد. فهي، في البلدان الضعيفة، أو التقليدية، تشكل وجهاً يختلف كلية عن ذاك الذي يكون لها في دولة متقدمة. بهذا الفرق تصبح الثقافة الأجنبية موجهة للحياة الثقافية في بلد الاستقبال، بل ومقررة في الاختيارات والأحكام والتوجهات الناشئة فيه.

ثم هناك الثقافة الإعلامية التي لا تُوقف مدَّها أي سلطة كيفما كانت. إنها الثقافة المنتشرة عبر وسائل الإعلام ووسائل الاتصال المتوفرة اليوم في جميع البلاد العربية. هذه الثقافة تلتقي في صفة مهيمنة، هي أنها تصل إلينا بدون أي حاجز. من المفيد الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين الحاجز والمانع. فإذا كانت الثقافة قامت، على الدوام، برفض الموانع، مهما كانت طبيعتها، فإنها لم تحقق ذاتها ولم تصل إلى بناء حدودها وقيمها إلا بالحواجز. أي بتلك القيم التي يكون احترام توفرها مفروضاً على كل ممارسة ثقافة حتى يُعترَف بها في المؤسسة الثقافية، أكانت فكرية أم أدبية أم فنية. وتخصيص هذه الثقافة بالإعلامية يقصد منه أنها ثقافة لا تحترم بالضرورة شروط العمل الثقافي أو الإنتاج الثقافي، وأول هذه الشروط أن يتوفر فيها المجهود الفكري والمستوى الإبداعي. فكل من يريد ممارسة الثقافة الإعلامية لحسابه الخاص، على شبكة التواصل الاجتماعي، يتقدم بطلب من نفسه إلى نفسه وينشئ موقعاً وصفحات على الشبكة العنكبوتية. ثم له من المراتب والألقاب ما يشاء. ينشر ما يرغب في نشره، دونما احترام أي شرط أو قيمة، بدون اعتبار لأي حاجز. وما يعقّـد الوضع هو أنها ثقافة تقوم على ما يسمى في لغة الشبكة بعملية النسخ واللصق، مما يسهّلُ معها إبطال المجهود الفكري والمستوى الإبداعي، بل التسفيه به والحط من الحريصين عليه.

5

أما الثقافة العربية الحديثة فهي التي أنشأها أدباء ومفكرون وفنانون، وفق قيم ومبادئ فكرية وجمالية حديثة. إنها ثقافة المجهود الفكري والإبداعي. وهي، بلا ريب، أهم ما استطاع العالم العربي تحقيقه في الالتحاق بالعالم الحديث، منذ نهاية الثامن عشر حتى اليوم. إذا نحن ألقينا نظرة سريعة على وضعية العرب اليوم، في بلدانهم وخارجها، فأهم ما سيلفت انتباهنا هو أن هذه الثقافة الحديثة هي أكبر ما حققوه، لما تتميز به من بناء ومن مجهود وإبداعية. لقد فشل العرب في بناء دولة حديثة تعتمد مؤسسات ديمقراطية ومسؤولة، وفشلوا في حماية أنفسهم بأنفسهم، وفشلوا في التضامن بينهم، وفشلوا في القضاء على الظلم وتفشي الفوارق الاجتماعية واستغلال السلطة وانعدام الحريات والإقرار بحق المواطنة، وفشلوا في الاعتراف بحقوق المرأة والطفل والأقليات. فشل نعيشه ولا نحتاج إلى من يدلنا عليه كما لا فائدة من التنكر له.

إنه فشل المؤسسة السياسية. ومقابل هذا الفشل، هناك فرديات مفكرة ومبدعة في شتى الممارسات الثقافية. لقد اخترقت هذه الفردياتُ الموانعَ المضادةَ للثقافة الحديثة وقيمها، وحققت إنجازات كبرى، لبعضها مكانة مشهود لها في البلدان المتقدمة، في أروبا وأمريكا وآسيا. هذه الفرديات هي وحدها التي تدل على إمكانية وجودنا في العالم كي نلتقي بالآخر ونتحاور معه بكل ندية، ومن منطلق حضاري. إنها الفرديات التي تحمل هـمّ التحرر في واقع بلدانها وهي التي تمثل الثقافة العربية عبر عصورها.

6

الفرق بين المؤسسة والأفراد هو مكمن السر في إخفاق هذه ونجاح أولئك. علينا ألا نتعب أنفسنا في بحث خارج هذا الشرط الدال. فتاريخ الثقافة العربية الحديثة، في المغرب والمشرق، على السواء، يقودنا بيد الشكر إلى هذه الخلاصة. وفي كل مناسبة عربية أو دولية، تتأكد. لنتأمل هذا الذي يحدث، ولنسجل ما نلاحظ. نسجل فقط. لا نريد إخفاء واقعة ولا التستر على أخرى. تلك البلاغة الفارغة من المعنى تكذبها الوقائع. عندما نلجأ إلى إخفاء الوقائع لا نكون فقط مخالفين للشرط المعرفي، بل نكون مضادين له، مناوئين لتداوله واعتماده، في الممارسة اليومية قبل الممارسة الثقافية. إنه سلوك العاجز الذي يخشى مواجهة نفسه قبل مواجهة غيره. واعتماد تسجيل الوقائع، بتجرد من كل نزعة عقائدية أو أخلاقية، هو ما يلخّص دعوة كوكبة من المفكرين التنويريين العرب. فبفضل دعوتهم نشأت حركة ثقافية تجرؤ على التصريح بما تلاحظ من سلوكات وقيم وممارسات تتـنافى مع الشجاعة في مواجهة ما لا يفيد في استحقاق زمن الحرية والإبداع.

نعم، علينا أن نبرز هذا الفرق، ونواصل العمل على إبرازه بكل ما أمكن من الحجج والنماذج. فتلك طريقتنا في التمييز بين زمنين : زمن الرغبة في المبادرة والثقة في الإرادة الذاتية، وزمن القبول بوصاية الآخر وهيمنته. وليس ثمة وسيلة أخرى غير أن نلاحظ أولاَ، ثم بعد ذلك نعمل على التحليل والفهم. هذا ما أراه مستعجلاً في زمن يصدمنا بما لا يفاجئنا من تمزقات. فهذه الطريقة تدلنا على معنى الثقافة العربية الحديثة، من حيث طبيعتها وقيمها وفاعليتها. وبها نميز بينها وبين كل من الثقافة التقليدية والثقافة الأجنبية والثقافة الإعلامية. تمييز يرشدنا إلى ما هي عليه الثقافة العربية الحديثة اليوم من تمزقات، وما هي عليه وضعية منتجيها من المثقفين.

7

هل يكفي أن أقول إن هذه الثقافة ملغاة من حياتنا ؟ هل يكفي أن أعدّد عوائقها ؟ سؤالان يسترجعان زمناً، أراه طويلاً، من معاودة السؤال، والبحث ثم البحث عن صيغ له متجددة، تستوعب الزمن المختلف، المتبدل. وها نحن اليوم في زمن تمزقات لا ينفع معها استجداء شفاعة الكلمات الميتة. أنظر إلى نفسي قبل أنظر إلى غيري. وفي كل لحظة أحاول أن أتوقف قليلاً قبل النطق أو الكتابة. في كل توقف حذر من السقوط في المتكرر، المتواطئ. وهو ما تقاومه ملاحظة تمزقات الثقافة العربية الحديثة. سماوات تنخفض حتى لا سماء. وأبواب مغلقة عند كل منعطف أو أفق.

منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي أصبحت التمزقات تتسرّب إلى جسد هذه الثقافة. شيئاً فشيئاً توسع دائرتها. وفي غفلة عن المطمئنين، كان يحدث هذا الذي يتشكل اليوم في وقائع، في بلداننا جميعاً، رغم الفروقات التي تهدئ من روْع من يرفع لواء الانتصار على الزمن. غربة هذه الثقافة في مجتمعاتها، أو نفيها إلى خارج أسوار المدينة، صورة لما هي عليه من شحوب. يكفي أن نبحث عنها، عن مكان وجودها، عن أصحابها وأنصارها، حتى ندرك ما تعانيه من هامشية، ومن هجران واغتراب.

على الذين يتفاجأون أن يراجعوا أنفسهم كي يتحملوا القادم من المفاجآت. ولنا، من ناحية أخرى، أن نلتفت إلى فئة من المثقفين العرب الذين لا يخجلون من الإعلان عن يأسهم، بكل ما يتطلبه الإعلان من خروج على طاعة مفترضة. وليس من قوة لحمل هذا اليأس سوى أن يكون يأس الصادقين مع أنفسهم ومع زمنهم، يأس الشاهد الذي يقاوم أوهام ما يحدث وما سيأتي. فلا تحزنْ، يأسُك يأسُ الصادقين!

اترك رد