إقالة قاضي القضاة

بقلم: د.  نهى فران

noha-faran زالت مراسم الحداد عن مدينة البحر والأرجوان، لكن الغصة بقيت في الحناجر. رغم قرار الملك بإنهاء الحداد، إلا أن الشعب رفض إخراج الغضب من نفسه. الوجوه حزينة والشوارع ساكنة، فقررت ابنة الملك العظيم أغنور أن تتفقد حال مدينتها كعادتها.

جرت العادة أن تتسلل دون غطاء الملكة، لتلبس بعض الثياب القديمة وتحمل في يدها بعض الخبز وتدخل في الحانات والأزقة، ترى ما لا يراه الملك وتسمع ما يدور في الخفاء وتقدم عندما تعود إلى القصر المساعدة وتقيم الحق. فقد كانت كمدينتها التي حملت اسمها مدينة الحب والحق.
تسللت في الليل تبحث عما يثير حبها للمغامرة، وفي أحد الأزقة سمعت صراخ فتاة ، اقتربت نحو بيت يكسوه الظلام في أجنحته، لترى رجلاً يعاقب امرأة ويضربها بسوط طويل وصراخها يعلو  مع كل ضربة، حاولت التدخل فأدركت أنها لا تستطيع كي لا ينكشف سرها، ركضت نحو بعض الشبان لتسألهم النجدة لتلك الفتاة، فسخروا منها بغباء وقالوا: “إنها العادة”.

  أثارها ذاك الجواب فقالت: “ألا من منجد لهذه الصرخات”، فسارعها شاب بقول: “لا تنتظري فقد ملوا من صراخها ومن طيش زوجها ، ففي كل مساء وبعد عودته يوسعها ضرباً ليعلو صراخها وصراخ أطفالها من حولها”.

غضبت الأميرة وقالت: “ولما لا تساعدوها؟”

قالوا: “في البداية كنا نساعدها ولكن في كل مرة نخرجها من بيتها إلى بيت أهلها تعود مسرعة إليه بحجة أبنائها، لتواجه من جديد العنف والقسوة في كل مرة تعود. وعندما قررنا أن نخبر عن الأمر لقاضي القضاة، أتى الرد: إنها زوجته ويحق له تأديبها ، وقد وعد في المرة المقبلة أنه سوف يسلمنا لصاحب الشرطة إذا عدنا بمثل هذا الكلام، فقد قال قاضي القضاة عندما وقف الزوج يشتكي زوجته بعدم الطاعة : قال تعالى “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا” صدق الله العظيم. وأجبرنا على عدم التدخل ونحن مللنا كثرة عودتها إليه”.

عادت الأميرة صور إلى تلك النافذة تبحث عن بعض الأجوبة فلم ترَ سوى أم احتضنت أبناءها بجسدها المدمى لتحمي لحمهم الطري من تلك الضربات لتأخذ كل الألم عنهم، وهي تستنجد صارخة و”اااه ملكاه” فلم يجبها أحد.

انتظرت الأميرة  قليلا ريثما رحل الزوج بعدما أنهكه التعب، لتدخل نحو تلك الأم والأطفال يبكون بجانبها وقالت: “ماذا جرى لك لما لا ترحلين!”

قالت: ” وأولادي كيف لي أن أعيش من دونهم؟”
نظرت الأميرة إلى تلك المرأة ترفعها بهدوء نحو السرير لتقول لها أخبريني ….
قالت الأم وفي عينها الدمع: وجعي ليس من ألم الضربات بل من ظلم قاضي القضاة ، استغربت الأميرة وتشوقت لتعرف الحقيقة، وقالت: “كيف!”

 فأجابت تبكي:  “لقد اصدر مرسوم يقضي بأن الأبناء للزوج وليس لي فيهم دراية. كيف أترك أطفالي معه؟ بعد كل ذاك… تعوّد جسدي على الألم لكن يكفيني أني مع اطفالي”.

 عادت الأميرة إلى القصر في صدرها الكثير من الأسئلة… وفي الصباح استدعت قاضي القضاة وقالت له: “ما حكم رجل يضرب زوجته؟” فقال: “الشرع يحميه …. عندما لا يسبب ضرر”.

فقالت: “أين الحق يا قاضي القضاة؟” … صمت كدهر من الزمن! نظرت إليه والخزي يعريه من منصبه لا كلماتها وقالت: “إجمعوا الشعب أمام القصر…”
انطلق المنادي ينادي باسم الأميرة صور، فليجتمع الشعب أمام أبواب القصر عند الظهيرة. استغرب الشعب لكلام المنادي وبدأوا يتسارعون، كعادتهم يعلمون أن الأميرة تتكلم فيما يؤلمهم وتنصرهم في حقهم. وعند الظهيرة خرجت الأميرة إلى أبواب القصر وأمرت الحراس أن يبتعدوا وصاحت بشعبها قائلة :
“يا أخوتي وأخواتي لقد آلمني خزيكم وتدنست بعاركم، منذ متى كانت النجدة لا تستجاب في مدينة الحب والحق؟ منذ متى تركنا من ينادي ويطلب العون؟ كيف تسمون أنفسكم بالشجعان يا فرسان صور. في الليل كسر صراخ إمراة يضربها زوجها صمت المدينة، تستنجد بكم وبملككم ولا تأبهون، إن لم تجيبوا السائل فمن سيجيبكم يا أبناء البحر. قررت منذ اليوم: إقالة قاضي القضاة من منصبه وتغريمه بالعمل في دار الأيتام” . وأصدرت قراراً يقضي بسجن من يسمع صوت نجدة ولا ينجد. وأيضاً قطع يد من يضرب زوجته.

“منذ اليوم الأبناء من حق الأم حتى يشبوا ويصبحوا فرسان وفارسات علها تعلمهم الشجاعة فينجدوا من يستجير بهم … نساؤكم حرائر مثلكم .. اذهبوا وأقيموا الحق يا أبناء البحر، تعلموا منهم وعلموهم .. إن الحياة مودة وانسجام وليس بغض وكره، وأعلن يومي هذا يوم الأم والمرأة لتحتفلوا بنخوتكم ولتتذكروا ما فاتكم” …

اترك رد