“معجم الرموز” للدكتور منير معلوف… يحتاجه الفتيان كما يحتاجه الشيوخ (*)

بقلم: د. ناتالي الخوري غريب

Dr-nathalie-khoury-4أعدّ دكتور منير معلوف العدّة، من ثقافةٍ ومُكنة ودُربة، على صبر نفس وإتقان صُنعة، وله من حظّ اسمه معنيان كان لهما نعم الوافي وهما له علمان: المنير، اسم فاعل لكنّه به فاعلٌ، ينير بدوره التربوي والكتابي كلّ ظلمة فينجي سالكها من بُغتةِ قد يقع فيها، ومعلوف: وما يحملُه ويحمّله من إرثٍ ثقافي، لا يعمى عنه عديم بصر وبصيرة…

وكتابُه اليوم، فكفكة ُكلِّ سحريِّ رمزٍ وعُجمة، ليقدّمَه سفيرَ دلالاتٍ تكثّرت في وَحدة، وتوحّدت في كثيف لفظة، وتخّطت ظاهر كلِّ قَوْلة، غوصًا على باطن أيّ معنى،
فكان جوّابا أفقًا جوّالًا على كلِّ عهدٍ قديم وجديد،…نبّاضًا بأساطيرَ وملاحمَ ودين، فضاّحًا كثيرَ أسرار واخبار، …..عارفًا صعوبةَ الدرب ووعورتِه، وما يتطلبُ من صبرٍ له منه كبيرُ اقتدار، ومن جهدٍ له فيه طويلُ باع ومسار….

فبحّاثة المعاجم، ككشّافة الدررِ في المناجم، على دوامٍ بحث وتنقيب، ترى من دلالة الكلمة ما يغريك بها من ومضة ولمعة، تقترب منها، فإذ في انعكاس الضوء بعضُ بعدٍ عن حقيقة ما اليه تسعى، فتبحث وتقلب وتقلّب، الى ان تهتدي، وتمكّن القبضة، وفي الهَدي منائر السالكين على دروب المعرفة…

لقد نجح د.معلوف في العبور بالرموز من روحيّة الحريص على السياق الذي ترد فيه اللفظة مصوّرًا تحوّلاتها وتلوّناتها وتنقلاتها الى فضاءات من عديد الثقافات والحضارات، وهو ما يعبّر عن قوة حضور الهم المعرفي لديه، كما سعتِه، مدركًا أنّ الرَّمزَ آليةٌ إبداعية ، وإواليّةٌ ثقافيّة، وكنزُ حضارات، ومكون فنيٌّ لجمالية النَّص الشِّعري أو النثريّ، لا ينقص تأثيرُه عن الصور البيانيّة. كذلك، أدرك دكتور معلوف مع “أدونيس:” أنّ ” الرمزَ هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئًا آخر وراء النص . فالرمزُ هو ، قبل كل شيء ، معنى خفي وإيحاء . [ففي القصيدة مثلا]، يكون الرمز اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغةُ القصيدة أو هو القصيدة التي تكون في وعيك بعد قراءة القصيدة.”

وبما أنّ الشُّعراء تفننّوا في ابتكار تراكيب جديدة لنسج صورهم، صبّ هذا الأمر في صالح اللُّغة؛ لأنَّ تفنَنهم يغذِّي المُعجم اللُّغوي العربي. هذا التفننُ والزِّيادة في الابتكار لم يهمله دكتور معلوفـ إذ استطاع أن يترصّد كلّ جديد، مدركًا أنّه لا يمكن التنكّر لدور اللغة الأوَّل والفاعل والأساس في مجمل عمله، فراح يبحث في دلالات الرموز، نازعًا عنها صفةَ الثبات، مدركًا أنّ الجمودَ عند مساحة حسيَّة أو معنوية تحددُ إطار انفتاحها على اختزان معان جديدة، والبحث عن دلالات أخرى بما يعيد التَّوقع في المنظور الظاهري بين عدد من المفردات ، مفتّشًا عن علاقات التَّكامل التَّفاعلي بين الألفاظ ، والمتباعدات من الصفات، وصولًا إلى تعددية المعنى للفظة الواحدة؛ مدركًا أيضًا أنّ الرمز يمتاز بالحرية ؛ ويأبى التقوقعَ في قالب واحد ليؤدي معنىً واحداً فقط ، أو يلبَس ثوباً واحداً لا يحق له خلعه ، فيكون ملازماً له معروفاً به” .

فكانت مهارتُه في استشفافِ ما وراء الظاهر الحسي لبيان الباطن الثقافي والحضاري والديني والمقدس والنفسي، وتبيان ما لها من شأن كبير في خلق الصورة الرمزية وبعث إيحائها، من خلال استنباط العلاقة الخفية بين الرمز والمرموز فـ ” الشيء الذي تمثله الكلمة أو ترمز إليه فهو مرموزها ” (1) ، وهذا التشابه هو العامل القوي في عقد الصلات ، وإدراك الغايات من الرمز.

فـ”الرمز في تعريفه الأساس هو أولا صورة الإحساس أو معناه، إنّه تمثيل مكثّف للشكل الخارجي أو تعبيرعنه من دون ان يكونَ الرمزُ صورةً للواقع، من هنا انطلق الباحث، في معجمه هذا، من الاشتقاق اللفظي حين يراه ضرورة، ومن ثمّ ينتقل إلى تعريف الرمز كمشاركة لما هو مقدّس، لما لا يمكن بلوغُه بسهولة، كونه أداةَ وصلٍ او تمثيل لانه يحمل أبعادًا أو أنطولوجيّة ،” وبما يحمله أيضًا من قوّة سحريّة، على الاقل لدى بعض الشعوب ولدى البدائيين خاصّة بمعنى ان يستخدم الرمز بغير المجال الذي الذي تأتّى عنه أصلًا وأن يعتقد انّه حامل مضمون يحافظ على استمرارّيته”لبعض الكلمات التي تستدعي ذلك، إذ ترتبط الثقافة والبدائية منها بشكل خاص بالرمز ارتباطًا وثيقًا من خلال الارتباط بين الخرافة والاسطورة وبين المعتقدات الدينيّة الأوليّة.461 لانّ للرمز هنا وظيقةً محددة فهو يساعد في فهم العالم…

كما أنّه لم يهمل في بحثه المعجمي الدلالة الفلسفية، حيث يمكن فهمُ كلِّ تصوّرٍ أو مفهوم فَهمًا رمزيًّا. “ما دام هذا المفهومُ غيرَ مطابق لموضوعه تمام المطابقة. وقد طرح السفسطائيون هذه المشكلةَ لاولِّ مرة إذ اعتبروا ان لا مطابقة بين دلالةِ الخطاب وما يعبّر عنه…وقد جرّت هذه المناقشة أفلاطون لإعادة طرح المشكلة من زاوية اللغة او التعبير اللغوي. فهل تعكس المفرداتُ -أي أجزاء الخطاب- طبيعةَ الاشياء ام أنّها مجرّدُ اصطلاح، أم أنّها بالفعل تمثّل ماهيّاتِ الأشياء الثابتة في عالم مستقل هو عالم المثل. …فاللغة الخرافة والمعرفة ليست إلا أشكالًا رمزيًّة. والتمثيل من أهمّ وظائف الوعي. فالعلامة الكلمة ليست أداةً توصل مضمونًا فكريًّا قائمًا بذاته بل هي أداة لها قوّتها، يتألّف بوساطتِها المضمونُ ويبلغ غايتَه. فالوظيفةُ الرمزية أتاحت للإنسان أن يخلقَ اللغة والثقافة. ..فهي مؤشراتٌ عامة للسيرورة الذهنية لأنّها تتمكّن من إحالة الواقع إلى عدد من التشكيلات توحّد الفعالية الذهنية فيما بينها….

يؤدّي الرمز دورًا بارزًا في علم الجمال، كمعطّى يشكّل تجليًّا من تجليات الخيال والفنّ عبر التحوّل الرمزي الذي يضفيه الفنان إلى محيطه والعالم…. وهذا ما م يهمله الباحث ايضًا في معجمه، فاستقى من منابعهم.

وفي الختام، لا بدّ لنا من القول، أنّه كتاب تستوي فيه رغبة طلاب المعرفة، ثانويين وجامعيين، كما رغبةُ الكتّاب، أدباء وشعراء ونقّاد، “فقد أخذ من طرف الفلسفة، واللاهوت، والاجتماع وأشرك بين وجدان الحاسة، وإحساس الشاعر والناقد وقاموسِهما اللغوي، فالشاعر والناقد يفيدان منه لأنّه الرَّمز” آلية من آليات الصُّورة الشِّعرية ؛ فإنَّه مَدين لها بالوجود فهي التي تبرزه من خلال التكوين الفني الذي يحدثه الانسجامُ بين التراكيب اللُّغوية من فرزٍ للعلاقةِ بين حديه، فالناقدُ يفيد تحليلا وغوصًا على باطن المعاني، والشاعر لا يسطّح معانيه، فيعبّر لمعا ولمحا، فتكونُ الرموزُ خيرَ مساعدٍ لوصول مساعيهما الى مراميهما.

والطالب يفيد منه ، بسرعة بحث ولَقِيَّةِ معنى، كما يفيد الاستاذ استنادًا اليه في فك ما اعجم عليه…

وكما قال الجاحظ في مقدمة كتابه “الحيوان:” يحتاجه الفتيان كما يحتاجه الشيوخ، يشتهيه اللاعب ذو اللهو، كما يشتهيه المجدّ ذو الحزم. ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب. ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن».

******

(*) محاضرة ألقيت في الندوة حول الكتاب في كلية التربية الجامعة اللبنانية الفرع الثاني، شارك فيها، بالإضافة إالى المؤلف دكتور منير معلوف، د. أنطوان أبو زيد، د. ناتالي الخوري غريب، وأدارتها د.مهى الخوري نصار.

اترك رد