بين شرعة حقوق الإنسان ووثيقة الأخوّة الإنسانيّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ أهمّ حدث عالميّ استأثر بالاهتمام، في الأسبوع الأوّل من شباط الجاري2019، كان زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى أبو ظبي ولقاءه فضيلة شيخ الأزهر أحمد الطيّب فيها، وإصدارهما معًا “وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السلام العالميّ والعيش المشترك” التي أريد لها أن تكون “إعلانًا مشتركًا عن نوايا صالحة وصادقة من أجل دعوة كلّ من يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله وإيمانًا بالأخوّة الإنسانيّة أن يتوحّدوا ويعملوا معًا من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلًا للأجيال القادمة، يأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل، في جوّ من إدراك النعمة الإلهيّة الكبرى التي جعلت من الخلق جميعًا إخوة”.

وقد كان للقدّاس الذي ترأّسه قداسة البابا، والذي شارك فيه أكثر من مئة وخمسين ألفًا، مشكّلين أكبر تجمّع بشريّ في تاريخ الإمارات العربيّة، كان لهذا القدّاس رمزيّة عالميّة، كونه ضمّ مواطنين من أكثر من مئتي جنسيّة. وقد عكس هذا الحدث التاريخيّ إرادة انفتاح غير مسبوقة في تاريخ شبه الجزيرة العربيّة، وكرّس كون الإمارات العربيّة موطنًا لحوار الأديان ، لا القاهرة، التي دشّنت مؤخّرًا أكبر كنيسة أرثوذكسيّة في الشرق الأوسط وأكبر مسجد في مصر، ولا بيروت، التي تسعى لأن تستأثر بهذا المركز نظرًا لما للبنان من تاريخ مديد في التسامح الدينيّ، وحرّيّة بناء المعابد، وممارسة الشعائر الدينيّة، لمختلف أبناء الديانات على أرضه.

وقد حرص الزعيمان الروحيّان الكبيران على إصدار “وثيقة الأخوّة الإنسانيّة” باسم الأزهر الشريف، ومن حوله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، والكنيسة الكاثوليكيّة، ومن حولها الكاثوليك من الشرق والغرب…لتكون وثيقة عالميّة تتوجّه ليس فقط إلى ” كلّ من يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله” وإنّما إلى” الذين يحملون إيمانًا بالأخوّة الإنسانيّة” أيضًا. وذلك في محاولة لتجاوز حصريّة تمثيلهما للسنّة والكاثوليك، وإظهار الانفتاح على بني البشر جميعًا. وقد جاء في الوثيقة بصورة واضحة ما يعزز هذا التفسير كقولها:

  • باسم الأخوّة الإنسانيّة التي تجمع البشر جميعًا، وتوحّدهم وتسوّي بينهم.
  • باسم الحرّية التي وهبها الله لكلّ البشر.
  • باسم الأيتام والأرامل والمهجّرين…دون إقصاء أو تمييز.

والأمثلة كثيرة.

وانطلاقًا من ميزة الشموليّة الكونيّةالتي أضفاها عليها واضعوها، فإنّ هذه الوثيقة تستدعي مقابلتها ومقارنتها بشرعة حقوق الإنسان التي سبقتها بسبعة عقود وصدرت في العاشر من كانون الأوّل سنة 1948، عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، ولم تغب، على ما أعتقد، عن ذهن واضعي هذه الوثيقة.

بداية، صدرت شرعة حقوق الإنسان عن هيئة دوليّة مدنيّة، وقد جاءت علمانيّة في توجّهها العامّ، تنطلق من الكرامة الإنسانيّة والحرّيّة،وتعترف بحقّ كلّ شخص في حرّيّة التفكير والضمير والدين.

في حين صدرت وثيقة الأخوّة الإنسانيّة عن مؤسّستين دينيّتين هما الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكيّة، وقد جاءت معبّرة عن جوهر الإيمان بالله الواحد بصريح العبارة فبدأت بالقول ” يحمل الإيمانُ المؤمنَ على أن يرى في الآخر أخًا له…” وقد انتشر في المقدّمة وفي الوثيقة حقل معجميّ غنيّ للدين، وغاب حقل الكفر والتكفير، ممّا يسجّل في خانة إيجابيّات الأدبيّات الدينيّة وخصوصًا الإسلاميّة، حتّى أنّها استعملت التعبير ” المؤمنين وغير المؤمنين”. ولئن أشار الإعلان إلى أنّ أهمّ أسباب أزمة العالم اليوم يعود إلى “تغييب الضمير الإنسانيّ وإقصاء الأخلاق الدينيّة” إلّا أنّه ساوى ما بين دوّامتين: دوّامة التطرّف الإلحاديّ واللادينيّ، ودوّامة التطرّف الدينيّ والتشدّد والتعصّب الأعمى”، وهو موقف وسطيّ متقدّم. ولم يكتف بذلك، بل اعتبر أنّ التطرّف الدينيّ والقوميّ والتعصّبقد أثمرت في العالم سواء في الغرب أو الشرق ما يمكن أن نطلق عليه “بوادر حرب عالميّة ثالثة على أجزاء”.

وقد أكّدت أنّ “الحرّيّة حقّ لكلّ إنسان: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسة…”، إلّا أنّها لم تصل إلى القول صراحة “لكلّ شخص الحقّ في حرّيّة التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحقّ حرّيّة تغيير ديانته أو عقيدته…” كما جاء في المادّة الثامنة عشرة من شرعة حقوق الإنسان.

والوثيقة تدين كلّ الممارسات التي تهدّد الحياة… كالإجهاض والموت الرحيم، الذي تنعته باللارحيم، وهما موضوعان جدليّان، في حين أنّها لا تشير إلى مسألة استعمال حبوب منع الحمْل، ولا إلى مسألة الاستنساخ التوالديّ…

ومن إيجابيّاتها أنّها تدعو إلى تجنّب ” الجدل العقيم”. وهو موقف براغماتيّمتقدّم.

ولقد دعت الوثيقة إلى إعطاء المرأة كلّ حقوقها. وهي دعوة ملتبسة. فما الذي يحدّد هذه الحقوق؟ في حين جاء في المادّة الثانية من الشرعة “لكلّ إنسان حقّ التمتّع بالحقوق والحرّيّات الواردة في هذا الإعلان كافّة…دون أيّة تفرقة بين الر جال والنساء”.

لا أحد يتوقّع أن تأتي الوثيقة نسخة طبق الأصل عن شرعة حقوق الإنسان، ذلك أنّ لها خصوصيّتها كونها صادرة عن مركزين دينيّين لا عن هيئة علمانيّة، لذلك قصرتُ المقارنة والمقابلة على بعض الاهتمامات المشتركة بينهما دون غيرها.

لقد انطلقت في بحثي من فرضيّة كون هذه الوثيقة ردًّا مزدوجًا على:

  • شرعة حقوق الإنسان، لإعادة التذكير بأهمّيّة دور الإيمان(النظيف) البعيد عن التطرّف في التقريب ما بين البشر ونشر ثقافة السلام وروح الإخاء والتعاون…
  • نظريّة صراع الحضارات، التي قال بها صموئيل هنتغتون، ولقيت رواجًا في أوساط الرأي العامّ والكثير من المفكّرين، وتعزّز الأخذ بها خصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر.

وبنتيجة البحث فإنّ الوثيقة نجحت نجاحًا كبيرًا في إبراز أهمّيّة الإيمان وإعادة إحياء( لا بل تفعيل) دوره وتبيان فائدة ذلك لخير البشر المشمولين “بالنعمة الإلهيّة الكبرى التي جعلت من الخلق جميعًا إخوة”بعيدًا عن تأليه الإنسان، ووضع القيم “المادّيّة الدنيويّة موضع المبادئ العليا والمتسامية”، ما يعتبر ردًّا مبطّنًا على شرعة حقوق الإنسان العلمانيّة، وقد خلت الوثيقة من أيّ إشارة إلى الديمقراطيّة التي تشكّل موضوع  المادّة الحادية والعشرين من هذه الشرعة . وفي الوقت عينه رسمت الوثيقة معالم الطريق الصحيحة لتعاون البشر ووقوفهم صفًّا واحدًا في مواجهة العداوة والتطرّف والإرهاب والكراهية… ممّا يسفّه نظريّة صراع الحضارات.

وأخيرًا، أعتقد أنّ لدى البشر الكثير من الشرائع والقيم والمساحات المشتركة وعوامل الوحدة، وليس عليهم سوى أخذها بعين الاعتبار وعقد العزم على الاستفادة منها في سبيل خيرهم ومستقبلهم، فهل يفعلون، أو أنّهم سيظلّون يتحدّثون عن السلام بأفواههم ويعملون على إيقاظ الحروب بأفعالهم؟

في 9\2\ 2019

pope

 

 

 

اترك رد

%d