سيكولوجيّةُ الخَمرةِ وشارِبِها، يُحسِنُ إليها وتُحسِنُ إليه

    

مَن يمشي الى حاجتِه مرَّةً على عَصاً، ومرَّةً على إنسان، يُحتَمَلُ أن يكون مريضاً لا يتحرَّكُ لِعظيم أوجاعه، ويُحتَمَلُ أن يكونَ كَلِفاً بالشُّربِ حتى لو دَنا به أَجَلُه. فمَن يرى العيشَ في معاقرةِ الصَّهباء، وهي الحِسنُ المَصون، لا يتهالكُ بدونِها على التَّشَبُّث بأذيال الحياة، وكأنّه يقول : إنّ زماناً لا تعبرُ فيه الخمرةُ مَتنَ حَلقي، هو جَدبٌ ضائع.

العلاقةُ بين المُعاقِر والخمرة شِركةُ نَفس لا مَدَبَّ للزَّيَفِ فيها، ففيها من الشَّغَف والتَتَيُّم والصَّبابة ما لا يَعرجُ مِثلُه الى أيّ حبيب. فالخمرة ركنٌ يُؤوى إليه، وعِرقٌ نابِضٌ يُعاذُ للإنتصار به، وعشيقةٌ تُحفةٌ قُصارى النَّصيب الفوزُ منها بِحَظٍ من نَظَر. والخمرةُ مع الشَّارِب تُرى الدنيا بعَينيها، إذا تَلاحَظا تَساقَيا إرثَ المودّة، وإذا تَصامَتا تَناجَيا بلسان الثِّقة. وبينه وبينها قسائم يصِفُها بِقَوله : كأنّي هي فيها، أو هي أنا، تُحدِّثُني عنّي بأٍسرارٍ ما سافَرَت عن ضميري الى شَفَتي، ولا نَدَّت عن صَدري الى لَفظي.

الخمرةُ قوةٌ رافِعة نشيطة تُوَجِّهُ “أنا” المُعاقِر صوبَ نشوةٍ تعبرُ الحدودَ بين الفيزيولوجي والعقلي، وفي الإتِّجاهَين. فالجسدُ الذي يتكثَّف فيه دَبيبُ الإرتعاش، يهيِّئُ لِأنا مُنتشِية ومُنفعِلة انفعالاً لاإرادياً، يُجيز في بادئ الأمر للنزوات أن تتفلَّت من الأعماق الواعية لكي تدلّ على الشخص الحقيقي للمُعاقِر، فلا تعود الأنا مَنيعة بل تخضع لسلطان اللّاوعي المُطلَق. من هنا، تَنحلُّ ضوابطُ المَسموح والممنوع في مجموع الأعمال الذهنيّة والفيزيولوجية واللَّفظية، ويُصابُ جهازُ الرَّقابة المُرتبط بالأنا الأعلى بِحالةٍ صَدميّة، فيقع العقلُ في ما يُشبِهُ أَسرَ الهَذَيان، أو ما يعتبره المُعاقِرُ تَحَرُّراً وانطلاقاً.    

المُعاقِرُ الذي يَتوقُ الى حالة إنفصالٍ عن رقابة الأنا هو حُرُّ الوجدان، يُلقي الى فطرته القيادَ في ما يعملُ وفي ما يقول، إنه إنسانُ عواصفِ الأَهواء، مُتَفَلِّتٌ من قيود الرّزانة وأَغلال الوقار. وبالرَّغم من اسغراقه في التّيه كالنّدَماء، وفي الشَّراب كالمُتَخالِعين، وفي الطَّرافةِ كالقُصّاص، غيرَ أنّ وَصلاتِ المُجالَسَة معه، بما ترشحُ من عفويّات الخاطِر وتَمثيلِ ما تَقَلَّب في حياته من عجائب وأحوال، وما اختزنه من غرائب العوالم المحسوسة والمُتَخَيَّلة، لم تَخلُ من فنّ الظّرف على حسب ما تقتضيه المُحادثة، ما يدفعُ الى العُجبِ من تلك القريحة المتوَثِّبة التي تثقبُ يدُها الأحداث، وهذا ما لا تحتملُه نُحورُ الرُّاوة، فيَنِمُّ قُصورٌ عن أن تُنتِجَ خواطرُهم أمثالَ تلك العفويّات المُدهِشَة.

المُعاقِرُ قويّ الحسّ، دقيقُ الملاحظة، حَسُنَت مطارحُ معانيه، ربَّما يعي كلَّ ما يسمع على عكسِ ما يُرَوَّجُ عن خُضوعٍ مُطلَقٍ لِلاوَعيِه. وهو خَصبٌ في إنشائه لا يُؤخَذُ عليه إلاّ بعض الإلتواء حين يُباعدُ بين الفاعل والمفعول بطائفةٍ من الإستطرادات الممتِعة التي تُذَكِّرُ بتَركيبات الجاحظ. وهو في ذلك، مُمتِعٌ مُشَوِّق، يضعُكَ في مقامِ المُنتَظِرِ دهشةً، حتى لو قاربَ الغرائب التي يأخذُها تآلُفُ الأَشتات وسِلكُ الفُرادة، فتَحسبُ وأنتَ تُصغي كأنّه يجيبُ عن: كَم بين عَينِ الشمسِ وبين مَوضع غروبِها، من الأرض.

المُعاقِرُ لا يخرجُ من حالِ النَّشوة الفَرِحة إلاّ حين يردِّدُ شكاتَه من نَكَد الدنيا ومعاناة الأيام، فيُجيدُ في الحديث عن هَجير الفاقة ومرارةِ الجَور وبَوار الأَمل. لكنّ شيئاً ما من غُلفِ قلبِه يَخِزُه في ذهنه، فيعود الى الطَّرائف والخواطر في تصويرٍ عجيب يُفصِحُ عن قدرته على الإحاطة بتَشَعّبات التراكيب. وهو، في حِرصِه المُشَوَّش على ألاّ تقعَ حبّاتُ عِقد كلامه حيث يشاءُ الإِغفال، يبدو كأنه أَقربُ الى حدود الرَّشاد من ” الواعين “، وبذلك يَنقُضُ ما قاله “الصّاحبُ بن عَبّاد” من أنّ سبيلَ الخَمرِ أن تُنقِصَ الحِجا.

المُعاقِرُ يثقُ بالخمرة ثقةَ الحكيم بالمَنطق لِتَمادي الأُنس بينهما، فلا ضلالَ معهما، ولا يلحقُهما فُتور ولا نَقص، وكأنّهما مَعصومان. فهما المصباحُ الذي يُقرَأُ في ضوئِه، والمحجّة التي يُهتَدى بِهَديِها، وفَصلُ القول الذي ينسابُ الى النَّفس انسيابَ النسائمِ الى براعِمِ نَوّار. المُعاقِرُ من دون الخمرة ولذّةِ التّيه يكادُ أن يهلِك. فعندما عَزَّ الوقتُ بالوِدِّ والخَير، وبالنّفوس الأَمّارة بالصِّدق، وبالشَّريك المُخالِصِ بالوفاء، لم يرَ المُتخامِرُ إلاّ الخمرة رِضاها مَنوطٌ بِرِضاه، وهواها مَحوطٌ بِهواه، تَسعدُ بحضرتِه وتنطوي له على مودَّةٍ أَذكى من العَنبَر، إذا لَحَظَ تدَلَّلَت، وإذا لَفَظَ تَهَلَّلَت، وكأنّها تنظمُ له بها عقدَ السّرور.

إنّ التَشَبُّثَ بالخمرة هو حالُ صفاءٍ ووفاءٍ مُتَقاسَمَة، لأنّ الخمرةَ تُعشِقُ شاربَها كلَّ ما وَصَل الحياةَ بالحياة، وتجلبُ إليه روحَها، وتُخلِطُ به  طيبَها وحلاوتَها. إنها التَّرجيحُ على كلِّ صديق، إنْ تَمرَّسَ بمُتعاطيها خصمٌ، تَعصَبُ له، وإنْ أساءَ إليه الدَّهرُ، تُحسِنُ به، فما مضغَ لقمةَ حنظلٍ بجوارِها، ولا تَجَرَّعَ عَلقَماً. من هنا، ليس بينهما ما يتملَّقُه لِئامُ الناس من عِتابٍ وتَكَلُّفٍ في الوِدِّ والإخلاص، فلا وَقاحةَ وجهٍ ولا حزازاتٍ، بل طيبُ صِلات أعارها الحقّ نورَه.

وللخمرةِ آياتٌ في شاربِها، أبرزُها الرَّدعُ عن الكتمان، فالصِّدق في كلامه أَغلب وإنِ احتاجَ الى التّأويل. فالسَكرانُ صادقٌ حتى في شَطَطِه، بعيدٌ عن الزّور وإن تَكَلَّف، يجنحُ الى الوضوح وإن بالَغ، لأنّه غيرُ قادرٍ على تلوين خواطره بنوازعِ التَّضليل وأوزار الخطأ. ومهما يكن، فالصّدقُ يُطلَبُ من الأنبياءِ والسَّكارى.

 

 

 

اترك رد