“الأب الرمزي بين المنع والتحوّل”

“الرمزية في التكوين وإعادة التكوين”

      

بعنوان “الرمزية في التكوين وإعادة التكوين” أعطى العميد البروفسور جان داود محاضرة في المؤتمر المنعقد خلال شهر أيار 2018 في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية في  الجامعة البنانية حول “الأب الرمزي بين المنع والتحوّل”.

بعد أن حدّد داود الرّمز وتكوينه واحتمال مرضيّة تكوينه، وفعله الممكن، أكّد على ضرورة “منع تحوّل الرّموز إلى تابوهات تأسر وتقيّد وتبرمج السلوك والحياة” وشدّد على ضرورة إعادة النظر بكثير من الرموز والمصطلحات، ورأى ضرورة إعادة النظر بالمسألة الأوديبية التي تبني بحسب داود وتُبنى على إخضاع الإنسان إلى القدر: “الرّمزية في عُقدة أوديب مطبوعة بالقدريّة ومبنيّة، بوعي أو من دون وعي، عليها. وكأننا نقول بأن الإنسان محكوم بأن يكون ضحية مأسوية  للقدر. أرفض ذلك . وأعتقد بأنّي صانع قدري”.

وتساءل البروفسور داود باستنكار: “لماذا لم يتمّ بناء مأساة أوديب في علم النفس على ضرورة مواجهة القدر وعلى محاولة الخروج من فخّ  الخوف الذي هو في صلب وأساس مشكلات الإنسان. كان  يجب على المنظّرين أن يتوقفوا بتمعّن عند مسألة الخوف وآثارها السلبيّة، وكان عليهم بالتالي الدعوة إلى المواجهة والتمرّس في السيطرة على الخوف وتحويله إلى أمر بنّاء كما أرى وأطرح في المنهج الكلّي. وليكن معروفاً: مواجهة الخوف لا تتمّ بالهروب. لذا كان من المفترض أن يرد المنظّرون في مسألة أوديب مأساته  إلى الخوف. الخوف في مأساة أوديب، عامل فاعل وحاسم، وهو الذي  أدّى بالوالدين إلى الهروب من القدر بالتخلّص من ولدهما وقتله”.

وانتقل داود في محاضرته إلى الدعوة إلى تصحيح المقاربات وعدم ترك الرموز في حال تلوّث وتشكيك حتميّ تتسبّب به  في جوانب منها، وإلا باتت خارجة على الغاية من إيجادها. وبالتالي، حذّر  داود من التهييئة النّفسيّة المرضيّة التي تحملها بعض الرّموز والطروحات والممارسات، وقال بضرورة التحصين ضدها،  وأبرز  المداخل هو اللعب والفنّ والإبداعيّة بحسب ما يطرحه داود في منهجه الكلّي الذي يدعوه أيضاً: الصوفية المدنية. وأعلن البروفسور داود رفضه للخصاء بكل أشكاله وبشكل رئيس منه الخصاء المعرفي الذي تحمله بشكل خفيّ مأساة أوديب. قال داود: “أنا ضد الخصاء بكل أشكاله وبشكل رئيس ضد الخصاء المعرفي. ألا تعتقدون أنّكم في مقاربتكم لأوديب  جعلتم، ومن دون حق، معرفةَ الإنسان وإدراكَه لأسرار الآلهة في أساس السلوك المؤدّي إلى المأساة والخطأ؟ وبالتالي كيف لِعِلْمٍ أن يترك مقارباته العلاجية تحت سقف القدريّة والعقاب في عقر الوثنية؟ ولماذا تبنيّتم أوديب بما يرمز إليه، وهو محكوم بلعنة القدر  كما حاله في الأسطورة والمسرحية – ؟”

إعادة نظر في المسألة الأوديبيّة

من النقاط الأساسيّة في محاضرة داود  دعوته أهل علم النّفس ومنظّريه إلى إعادة نظر في المسألة الأوديبيّة وأكّد أنّ “علم النّفس ربّما سيكون أقل غباء أو أكثر ذكاء عندما يعتبر أنّ المسمّاة-لعنة التي حلّت بأوديب  مغروسة جينياً بتراكم نفسي عابر للأجيال، فيعزّز علمُ النّفس بذلك علمانيّة موقعه، بدلاً من الخضوع إلى القدريّة، علماً أنّ تبنّي هذا الطّرح لن يكون كافياً ليزيل عن عقدة أوديب شوائب المقاربة التي تحمل. وتابع داود “وفي تبنّيكم للطرح المذكور احذروا من تحويل التوارث الجيني إلى قدريّة جديدة على المستوى النّفسي، وهذا أمر محتمل الحصول. حتى المسألة الجينيّة النّفسيّة قابلة للصفاء والتصافي، ولنا في ذلك طروحات ومقاربات “.وساق البروفسور داود تساؤلات لا بدّ من التوقّف بعمق عندها:  “هل ضلّل بناء الرموز علمَ النّفس؟ أطرح السؤال لأنّ بدايات علم النّفس كما الفلسفة هي في الفنّ والأسطورة وهما مساحتان أساسيّتان ومدخلان  لبناء الوعي. ومع الأسف تركت الأسطورة القدر مصدراً للتحكّم بمسار ومصير  الملوك كما البشر. وبالتالي جعلت السّاحر الأوّل للقبيلة ناطقاً باسم القدريّة ومحتكرا حصريّا لحق المعرفة، وبذلك تكون العلوم الإنسانيّة، إنْ لم نتدارك ذلك، أمام فخّ جديد في ربط مصادر المعرفة الإنسانيّة، وردّها إلى أصول من خارج الاختبار والتجربة، ومن خارج البصيرة، وحتى من خارج أيّ تشكيك ، أكان التشكيك من روح العلم أو من روح الرّجاء، وفي ذلك مخاطر جمّة”

وتابع البروفسور داود كلامه في مسألة أوديب ليُحمِّل المعنيّين بها علميّاً مسؤوليّة جديدة ويسأل العلماء والباحثين  إخراج مرجعيّة المعرفة من العرّافين والسّحرة. وحمّل داود المعرفة المُفخّخة، المُشوّهة، والمشكوك في مصادرها مسؤولية مآسي البشر: “لو لم يزعم العرّاف (السّاحر) أنّه يعرف، ولو لم يزعم  أنّ الابن المنتظر لملك طيبة سيقتل والده ومن ثمّ سيتزوّج والدته،  لما كان الوالدان (الملك والملكة ليقرّرا قتل ولدهما.  مَن ائتمن العرّاف على معرفته تلك؟ ومِن أين أتى بها؟ وما  مدى مصداقيتها؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يكون قد لفّق تلك المعرفة من منطلق خاصّ به ولغاية خاصّة ؟”

وذهب  داود في أسئلته وطروحاته إلى رفض الإغراق في غسل الأدمغة: ” هناك نوع من التآمر على الإنسان يحصل بالصّمت والخضوع إلى  ما يشبه التشريع غير المعلن للقتل (قتل أوديب الطفل في أسطورة ومأساة أوديب)هروباً من اللعنة والقدريّة “.

التآمر بالصّمت

ومن الطروحات الجذريّة التي دعا إليها داود في محاضرته رغبتُه في عدم إخضاعنا كمشرقيّين إلى معايير غريبة عنّا وعن ثقافتنا: ” ما هذا التآمر بالصّمت، والخضوع إلى  ما يشبه التشريع غير المعلن للقتل هروباً من اللعنة أو من القدريّة؟  كمشرقيين أو شرقيين أو حتى شرق أوسطيين، ليس في ثقافتنا قتل للأب والأم بدافع أوديبي،  ولا  أعتقد أنّ ارتكاب  الأخطاء التي هي بمثابة قتل الأب أو بمثابة الزّواج من الأم مطروحة في ثقافتنا؟ وبالتالي ألا تعتقدون معي أنّ علينا الحذر والتروي والتعمّق والبحث عن الاختلاف والخصوصيّة والفرادة في طرح المشكلات وتبنّي النظريات؟ إنّي أؤكد أنّه لا  يصحّ أن تنقلوا مفاهيم غربية وتسقطوها على شرقييّن تختلف أنماط حياتهم وقيمهم وبناهم النفسية والمعنوية والقيميّة.  قد لا تكون لدينا في ثقافتنا أمور مماثلة ومطابقة لما هو الأمر عليه في الغرب، وقد تكون أمورنا  أفضل أو أسوأ من ذلك، لذا دعونا نبحث في مسائلنا على ضوء خصوصيّة بنانا وثقافتنا وجيناتنا”.

وكرّر داود بإصرار رفضه للتبعيّة بأشكالها ومنها التبعيّة في مجال العلوم الإنسانيّة وبشكل خاص في علم النّفس: ” ألا ترون أنّنا  في الاعتماد الأعمى على ما يرِدنا، وإقحامنا لبعض المسائل الغريبة نقوم بالتهيئة النفسية والغرس النّفسي (“التطعيم” بلغة منهجي) لأمور غريبة عنا في لاوعي ووعي الآخر المتدرّب أو حتى طالب المساعدة النفسية قبل وحين وبعد اللقاء به. بات علينا أيّها السيدات والسادة أن نقيم علوم النفس بما يحترم مشرقيتنا وإنساننا”

ومن المسائل البارزة التي أكّد عليها البروفسّور داود في محاضرته، “ضرورة التمرّد على  التنميط وعدم السّقوط في فخ الإسقاط العشوائي والتبنّي المطلق للنظريات. دعونا في الشرق نتكلّم  على الجانب الإيجابي للعباءة  الأبوية ، وهنا نسمح للطفل أن يلعب مع العباءة ويرتديها في حلم أن يصبح بحجم وقوة صاحبها أو برغبة في أن يتخطّى تلك القوّة لا مانع…وهنا تمتزج العباءة بصورة الأب كحضانة وحماية (ولنا طرح حتى في مسالة الحضانة لا يسمح الوقت اليوم بإعلانه)…فلا يكون الأب هو الذي يمتلك ما يعتبره علم النّفس منافع، إنّما تكون عباءته رمز للحماية  والنضح الإنساني، رمز للحضانة  الإيجابيّة وصاحبة مسؤوليّة بدلاً من افتراضه صاحب الحق والملك والسلطة …”.

وتابع داود: ” بالطبع هناك عباءات تحمي، ومنها ما يتحول إلى أجنحة تحلّق بالطفل، ومنها ما يخنق ومنها ما يقتل… لكنّ الشواذ لا يشكل القاعدة وعلم النفس والاجتماع والعلوم الإنسانية قائمة للتعامل مع الشذوذ السلبي (هنا يمكن أن نستخدم كلمة الشذوذ بسلبية طابعها ودلالاتها في حال سفاح القربى). تلك العباءة هي التي يرتديها الطفل وهو يريدها برمزيتها : يريد أن يصبح عندما يرتديها على صورة والده ولا يريد أن يكون مكانه. هو يريد أن يكون أباً، ويريد أن يكون كبيراً، ويريد أن يكون قوياً… (ومن هنا رمزية العباءة في العشائر، وهي عباءة سلطة شبه مطلقة في بعض العشائر، لها قرار الحرب والسلم، قرار المسامحة والثأر، وحتى قرار السماح بالزواج والطلاق والرجوع عنه…). واعتبر البروفسور داود أنّه “حتى في الغرب، حيث انتهت ثقافة الحياة  إلى ما انتهت إليه، لا حاجة بالطفل إلى “قتل الأب” فهذه العمليّة لا تبدو ضروريّة في رمزيتها لأنّ الأب تخلّى عن  دوره  بشكل اختياري، وهذا التخلّي منتقل وعابر للأجيال بشكل ما عبر الجينات، إن شئتم ، أو أنّه مقروء برأينا بالطفل عبر الطاقة والمشاعر،  وبالتالي سنكون أمام أجيال لا تنطبق عليها فكرة الحاجة إلى القتل الرمزي للأب المتخلّي باختياره عن صورة الأب بما هي عليه في الثقافة الكلاسيكية الطابع”.  ولعلّه  بات يجب على النّفسانيين  اليوم أن يركّزوا في بحثهم عن الأب الرمزي في الغرق والاستغراق في البدائل الرقميّة . وأقترح عليكم أن يكون المؤتمر القادم تحت عنوان “الأب الرمزي في زمن الرقميات” …. ومن النقاط التي عاد داود ليؤكد عليها مخاطباً المعالجين النفسيين والمؤتمرين والطلاب : “العلوم النّفسية سوق يروّج فيها كل لثقافته أو معتقده أو فرضيّاته أو منتجه… فانتبهوا إلى الرّموز وصنميّتها الممكنة، والتحجّر في مقاربتها، وأنانيّة آلهتها الوثنية الأسطوريّة التطلّع والاصطفاف في الشّكل الفارغ من الجوهر. نعم، إنّنا  في زمن الوثنيّة الجديدة. و للقدر الجديد في هذه الوثنية عناوين في امتلاكه للنفوس والعقول وفي زعم محاربته للتسلّط على العقول (القدر الجديد يأخذ مكاناً حتى في مجالات المعرفة) انتبهوا بشكل رئيس من عناوين يريد البعض أن تدور حياتكم  في فلكها،  ومن أخطرها : المال والجنس، والأخطر في الخلفيات الثقافية السائدة اليوم حيث المال سلطة، والمال من أجل الجنس والجنس من أجل المال. ودعنا نقل بصراحة، هناك من يريد أن يبقى الإنسان عبر علم النّفس سجين المسألة الجنسيّة، ولا يجب أن يكون الأمر كذلك. وهناك من يريده (الإنسان) محكوماً بالمادّيّة وعبداً لها،  وأرفض ذلك.

مفهوم الغرس الإيجابي

وفي رؤية البروفسّور داود  ومساره لما يدعوه بالصفاء والتصافي، نادى بضرورة اعتماد مفهوم الغرس الإيجابي بحسب مصطلحاته قائلاً: “أمّا في في منهجي فأنا أطرح الغرس الإيجابي أي الغرس النّفسي البنّاء والمحرّر. وأرى أنّ المقاربة “العلاجية” كما تسمّونها، أوالاستصفاء العابر للثقافات والإتنيات من أجل الحماية النفسيّة، يتمّ باللعب والفن والإبداعية بما هي أدوات منهجي القائل بالصوفيّة المدنيّة”.  وانتقل داود إلى التأكيد على أهمّيّة الإيجابيّة البناءة قائلاً: “انتبهوا: أخشى أنّ البعض يغرس عبر الجينات ما يعتبره ويصنّفه علم النّفس أمراضاً نفسيّة، وستثبت العلوم ذلك. إعملوا على الغرس النّفسي البنّاء وحرّروا النّاس من الخوف السلبي (قاعدة ذهبيّة في منهجي )”. وتكلّم داود على التكويد في اللعب نفسه وعن احتمالات تفخيخ رمزيته. وأعطى أمثلة عن خطورة وأهمّيّة التكويد في اللعب عبر الكثير من الألعاب. وتناول رمزيّة التكويد في “لعبة الشطرنج بدلالاتها وبما تحمله في تاريخيتها من استخدام الزهر فيها لفترات من الزمن، وبالتحرر من الزهر ورمزية هذا التحرّر كإعلان رغبة  في تقديم المنطق على الحظ . وقياسا على ذلك أشير إلى  كيفيّة تطبيع الأدمغة والتدريب عبر رمزية اللعبة على مسائل كثيرة. هنا أيضاً أطرح ضرورة الصفاء واللانفعيّة للمكوّن والمدرّب ومبتكر اللّعب وواضع قواعده وموجّهه”. ونبّه داود إلى أنّ ” الإبقاء على الرمزيّة المبنيّة بخلل يضرباللعب كما  بالعلاج وعلم النّفس أحياناً . الرموز أداة للبناء تلك هي المعضلة وهي أفخاخ تنقضّ عليك في وقت ما إن كانت من البرمجة السلبيّة. فتبقى مهمّتنا والمسألة الأبرز التي علينا أن ننكبّ عليها: كيف نحرّر علم النفس من النفعية واستخدام الرّموز حينا لتسويق أمر وحيناً لتسويق نقيضه؟”.

الخوف والذنب وتعذيب الضمير

وختم البروفسور داود محاضرته مؤكداً: “لا أطرح الأسئلة من أجل موقف أخلاقي ولا رافض للأخلاق. إنّ الأخلاق إن بُنيت على الخوف والذنب وتعذيب الضمير إنّما هي حالة تعذيب ونموذج لخطأ يربط الدين بالخوف من العقاب ومن جهنم فيجعل الإيمان نفعيا ويفقده روحانيّته. وأسأل التنبّه والالتزام بأن  نبني الرموز بما يوقظ الإنسان لدى الإنسان فلا نتسبّب  له بدوامة خوف في وعيه أو لاوعيه، ولا نتسبّب له بفقدان  إيمان بالمربي والمجتمع. والأهمّ من ذلك أن لا نبرمج كينونته، فتبقى له الرغبة والقدرة على تحدّي الرموز في ما تخفيه من لا منطق وشوائب يشعر بها إنسان مرهف الوعي والإحساس.  وبرأيي إن مأساة الوعي هي محاولات قوننته في مسارات حتميّة، وفي تطبيق بعض منتجه  ومعاييره في قوانين صارمة على مُختلفِين. كما في حال  التربية التي تقضي لا بل قد تدمر الاختلاف والإبداعية  منذ مئات وآلاف السنين. إحدى مأسي الوعي هي أيضا في بنائه وتطبيعه بالرموز،( والأقوال المأثورة لدينا هي نموذج عن هذا التطبيع). لا توصدوا الأبواب، افتحوا الملاعب والساحات ومساحات اللعب والفنون والإبداعية، إنّها المساحات الفعلية للحرّية والحياة. ويبقى اللعب المقرون بالإبداعيّة أيها السيدات والسادة والمقرون بالصوفية نافذة إلى الخلاص والتحرر،  والطريق إلى الصفاء . تذكّر،  طالما أنك تلعب، فاللعبة لم تنته. وأنت قادر على تغيير النتائج بالإبداعية. وطالما أنك تلعب فلن تكون ضحية، وإن ذهبت إلى خسارة فلن تكون خاسرا لأنك ستعود إلى اللعب. واحذر من أن يُقنعك قائل : لأنك ذهبت إلى اللعب جعلت نفسك مُعرّضاً لخسارة أو عرضة أن تكون ضحية”.

 

 

اترك رد