الشاعر عادل حيدر:  الإيديولوجية عمياء لن تستطيع اللحاق بالشعر والشعراء الحقيقيين أبداً

 

حوار – منار علي حسن

 

 

في ديوانه الجديد “إذا انجرح الماء”، يخرج الشاعر عادل حيدر من دائرة المحسوس ويغوص في أعماق المادة لاكتشاف روحانيتها وتقريبها من فكره، فتصبح بمثابة توأم لها، من هنا جعل من الماء كائناً يتنفس وينجرح ومن الطبيعة صنو المرأة ومن الأرض صنو الوجود… قصائده رموز تختصر عوالم تنبض في داخله، وآمالا تدفعه بإشراق  إلى مستقبل، يبنيه على أساس تراكم ثقافي اكتسبه من الاطلاع على نتاج الكبار الذين تعاقبوا في الأدب والشعر، وتركوا في نفسه كنزاً من المعرفة، خولته المضي قدماً في مجال الشعر بثبات قلم  وعمق فكر ورؤية…

الشاعر عادل حيدر ابن مدينة طرابلس (عاصمة شمال لبنان)،   تشبّع من تاريخها العريق وحملها في قلبه عندما انتقل للعيش في بيروت، فتتقاسم المدينتان قلبه  وعقله عندما يمسك بالورقة  ليبثها تجربته الشعرية.

ديوانك الجديد “إذا انجرح الماء” هو خفقات روح متعطشة إلى عيش الحياة بكليتها، فهل ثمة علاقة بين الروح وبين عنوان الديوان؟

الماء كونه مادة الحياة الأولى، لا بد من أن يحمل في رمزيته الروح التي تُبقي اتصال جسدنا بالحياة ممكناً.. الماء حياة .. وكل شيء بالماء حي. جرح الماء الذي لا يمكن أن يكون مادياً هو جرح الروح حتماً وانفصال في كينونة واحدة،

إذا اجتمع ماء وماء، لن نستطيع أن نميز أيهما في الآخر، كذلك روح وأخرى إذا ذابتا وذوّبتا الكون فيهما. لكن، إذا انفصل الماء عن الماء، الروح عن الروح، حدث انفجار لا تحتمله الأمٔدية وتنوء بحمله الآلهة، ونحن لسنا آلهة ، نحن نحب ونشقى وقد نكره.

الانفجار العظيم قديماً نشأت على آثاره هذه الحياة العظيمة، ولعل مشاهداتي في “إذا انجرح الماء” كانت قيامة جديدة سلبت مني ما سلبت، لكنها في المقابل تفتح لعيني عوالم جديدة وتمنحني شغافاً لم أجربها من قبل، لا أزال أتحسس ما اتسع من الروح،

وأتلمس عاطفتي التي تتشكل من جديد، أفتح بكل ما أوتيت من أذرعٍ صدري لأعانق العالم الجميل.

نصوص الديوان تتنوع بين الشعر والتأملات، فهل يكملان بعضهما بعضاً، أم كل واحدة مستقلة قائمة بذاتها؟

التجربة الشعرية لا بد من أن تكون تأملية، في البدء يكون أمام الشاعر قواعد يحترس منها، قد تكبله، ويستمر سنوات يغني ويداه مغلولتان في السراب،

لكن شيئاً فشيئاً يصبح الشعر مساحة شاسعة للتعبير والتأمل، وتكسيراً مستمراً لأصنام الذات واللغة، عندها يستطيع الشاعر حفر البئر العميقة لعطاش العالم ومنفييه.

التأمل العميق في الذات والكون والحياة حالة وجودية يكابدها الانسان كل يوم وليلة ،

والشاعر هو من يقطر هذه المشاهدات في قارورة عطر شديدة التكثيف، يلتقطها القارئ على شكل قصيدة، كلما اتسعت عوالمه كلما حفل بحدائق لا حدود لأخيلتها،

ليظل التحدي الأكبر أمام الشاعر هدم الحاجز بين الشعر والفكر والولوج إلى الوعي الجمعي بمفارقات صادمة محفزة للوعي والخيال والعاطفة والذوق.

في شعرك تؤنسن الطبيعة وتجعلها توأماً لروحك ولقصيدتك، فما سر هذه العلاقة؟

الشعر إيغال في الخيال والتشهي… وفتح لمناطق جديدة باستمرار… رغم أن المدينة غير مأهولة بمكونات الطبيعة… بدأت أنقش هذه الطبيعة في قصيدتي المدينية – وأنا ابن المدينة – في محاولة لايجاد مساحة تعبيرية مستجدة على روحي… ربما كان هروباً ورغبة في الاستكشاف، وربما كان محاولة استقراء أخرى للحياة المدينية، فالطبيعة بمكوناتها وما تحمل من رمزيات لا بد من أن تلمس الروح من أطرافها وتشدها إلى رحائبها الزاخرة باللون والحياة والدهشة. كان لا بد أن تغري لغتي وتمنحها بعدا تأملياً، فكانت هي الألوان التي أشكل منها فضاءاتي المجردة والمتعبة.

ملكوت أنثوي

في قصائدك ترسم المرأة كما تراها بقلبك وبروحك، فأين هي هذه المرأة بالذات في حياتك؟

لمن لم يدخل إلى العالم الأنثوي فهو مطرود لا محالة من جنة أمام عينيه.

أكاد أجزم أن الرجل لا يصبح رجلا إلا إذا ولج إلى ذاك العالم وحار فيه بكل طفولية .. تمشى وتعثر ..
إلتئم وانجرح ..

تشكل و انكسر ..

بدون أن يحاول الرجل أن يفهم المرأة فإن جزءاً كبيراً من العالم لا يزال يفتقد فهمه ومعرفته. لذلك ، العالم الأنثوي بأكمله يغريني لاكتشافه باستمرار ، وربما ظلم المرأة الذي تعرضت له عبر التاريخ يجعلني مشدودا دائما ك عود على أعصابي ..

فتعزفني إليها دائماً آهات وذكريات واشتياقات ، عساها تمشق قامة أحزانها لتراقصني إلى آخر العمر ، تلك التي تجيد العزف بالروح والعاطفة .

إنكَ ترسم آلافاً وتمحو ، ولا تدري هي فيمن رسمت أو فيمن محوت !

تتوجه إلى المرأة في شعرك بأسلوب مباشر وتدعوها إلى دخول هذا الملكوت، فهل تقصد تحويلها إلى خاطرة أو ملجأ تفيء إليها في لحظات معاناتك وتقيك شر الغدر والخيانة؟

عندما أتلمس هذا الملكوت الأنثوي، بضعفه وقوته، منطقه وبلاهته… تفلت مني القصائد… وأصبح بكل روحي أطرى من شمع يحترق.. رغم الانكسار أتحسس جناحي من صوتها وسمائي من مقلتيها…

صحيح أننا – أنا وإياها – نتشكل في قصيدة، لكن القصائد تظل قاصرة أمام – صباح الخير – أول نهار عصيب، قاصرة أمام وردة ما زالت إلى الآن تبدل عطرها في كتبنا القديمة…

قاصرة أمام عناق يثقب الروح لتمر فيها الآلام والاشتياقات، القصائد في الحقيقة، جميعها تفشل في مجاراة علاقة واقعية بكل أحوالها وتقلباتها.. هنا تولد الجدلية في نقل الكتابة إلى الواقع أو في نقل الواقع إلى الكتابة، وبين هاتين المساحتين تتجلى المرأة التي أعشقها.

تنبض قصائدك بالحب والرومنسية ألا تعتبر أنك تغرد خارج السرب فيما شعراء كثر يستقون من مرارة الواقع شعرهم؟

العالم الآن مليء بالضجيج … ووسائل التواصل سهلت الوصول وقطعت الكثير من المسافات أمام الرومنسية والحب. رنة الهاتف التي كنا ننتظرها شهوراً مليئة بفيروز وأم كلثوم وعبدالحليم تحولت فجأة إلى رنة واتساب باردة .

لدينا ملايين العشاق… وملايين المكسورين في لحظات… وبين الحالتين الكثير من الفراغ المهول، ربما أحاول بشعري إعادة فتح النافذة على الزمان الجميل أمام مشاعر لم تعد تتفاعل بالشكل المطلوب، وأطلق عصافير الحب من جديد عسى أن نشاهد مصادفة مشاعر نجهلها في أنفسنا لم ننتبه إليها في زحمة وصخب العولمة.

لست أقول إنني بذلك سأنجب للعاشقين زماناً… ولكن عاطفة الحب … عاطفة الحزن… الفراق … الشوق… الانتظار بحاجة أن تكون ذات قيمة وتأثير أكبر في نفوسنا أكثر مما نعايشه للأسف.

ألم وقلق وتساؤل

في القسم الثاني من الكتاب “جرح الماء” ترسم حياة بكاملها من حب وفراق وموت وما يتخللها من ألم واحتضار، فهل تعتبر أن الألم وحده يصنع قصيدة؟

الألم هو أحد كُتاب القصيدة الذين يدخلون علينا في قمة الحزن والفقد… يمسكون عنا الدمع ويغمسون أيديهم في قلوبنا ويُخرجون أسوأ ما فينا.

ينبغي للألم أن يتّحد مع القلق الخوف والتساؤل، ولكن أيضاً أن ينعجن مع الأمل والوعي حتى ينضج تماماً عندما تحرقنا الحياة. كم يخيفني ألم يكتب عن الموت وحسب وأنا ما زلت على قيد الحياة.

الألم في نظري هو فرصة للتقدم والانفتاح وكل ألم لا يجعلنا نفتح أيادينا بكامل عواطفنا لنعانق الحياة لا يعول عليه… والقصيدة التي تدور في العدم ولا تلمع كنجمة في السواد هي ميتة، والقصيدة في نظري الحياة.

 للوطن مكان في قصائدك، وكأنك تبني شعرك على ثنائية المرأة والأرض، فإلى أي مدى هما صنوان لانتمائك الوجودي؟

في الحقيقة أحتفظ بهذه الثنائية ك مفاهيم قياسية أتعايش معهما بشكل يومي ، فيصعب علي الانتماء المؤطر والتنفس من هواء محدد.

كل أرض تطؤها قدمي هي وطني،

وكلما اتسعت بقعة الحنين في خافقي اتجاهها أكثر كانت لي وطناً أكثر!

لا أنكر مثلاً كم غربتني بيروت عن طرابلس ، ولكنني الآن أشعر أن طرابلس هي القلب وبيروت هي الروح .وكذلك ، كل امرأة فتحت عالمها على شباك ذاكرتي مرة،

أو مرت عليَّ بكامل أنوثتها وأنا أعبر الطريق السريع فدهستني ابتسامة منها،

لها جزء مني ينتمي إليها ، ويبقى لي أجزاء كثيرة سابحة في هذا الوجود لا تزال تنتظر .

ترسم الحرب ومعاناتها بصور شعرية مخضبة بالدم، فهل تقصد من خلالها إطلاق صرخة مدوية في وجه القتل والموت والدمار؟

وسط القتل والموت والدمار الذي نعيشه بشكل يومي في أرجاء وطننا العربي ونعايش ارتداداته، كان لا بد من أوجه صفعة للمتعامين في البداية، وأصرخ في وجه العاطفة والإنسانية.

لا يمكن في نظري أن ينشأ وعي من دون أن نستفز العقل والعاطفة بصور قاسية تنقل الإجرام والفكر المعتوه المملوء طائفيةً وجهلاً ودمويةً كأسوأ ما يكون.

الشعر بعيد  عن الإيديولوجية مسافة ضوئية، والإيديولوجية عمياء لن تستطيع اللحاق بالشعر والشعراء الحقيقيين أبداً، وبعيد عن أعين الناس مسافة صخرة واحدة حتى يروا العالم من دون حرب، وكم يصعب أن يزيح كثر من الناس صخرة الكراهية عن أعينهم وصدورهم.

كشاعر شاب، هل تعتقد أن الشاعر يجب أن يكون استمرارية للشعراء الذين سبقوه أم يخط لنفسه نهجاً جديداً مستقلا؟

من خلال تجوالي على الشخصيات الفكرية والعلمية والأدبية والفلسفية لم أشاهد متقدماً واحداً لم يصعد على أكتاف من  سبقه ليرى الأبعد إما تقديراً وإما تحطيماً.

العظماء جبل .. وكل الذين في القاع هم من جعلوا العظماء نصب أعينهم فقط .. فأعموا أنفسهم بالتقديس عما ينتظرهم من مجد..

لا أحد يخرج من العدم ليدهش العالم، ولا من آلاف الكتب التي يطلب بعضهم أن نمضغها قروناً لا تسمن ولا تغني من جوع، إنما العظمة صعود .. وتجلٍ من على قمة الجبل لنرى الماضي والحاضر والغد كما لم يره الذين من قبلنا، وكم يحتاج هذا التجلي من مكابدة ومعاناة طويلين وطموح أعلى من القمة نفسها.

“عندي الكثير لكي أقوله”

حول الجديد الذي يحضره راهناً يوضح الشاعر عادل حيدر: “ديواني الأول كان رمية نرد .. وأنتظر بكل سرور تفاعل الناس معه، أين أخفقت وأين أصبت، لا ضير عندي في أجرب، فأنا لم أعرف الخوف يوماً”.

يضيف: “بكل تأكيد لدي كثير من القصائد المنتظِرة والمنتظَرة وأنا في حالة تأمل وكتابة دائمين، وأحضر لنقلة نوعية في تجربتي وعندي الكثير لكي أراه وأعيشه، أشتهيه وأكبحه، أكتشفه وأجربه، كل سماء ستأخذني نحو أرض جديدة، وكل جرح يفتح ذراعي أكثر لأعانق الحياة وأقبل المدى وأفتح لفراشات روحي النافذة لترحل عن أجسادها نحو النور الذي تشتهيه ولم تدركه بعد… عندي الكثير لكي أقوله!”

*****

(*) جريدة الجريدة الكويتية.

 

اترك رد