د. حورية الخمليشي: “الشعر وأنسنة العالم” يشير إلى أهمّية الشعر وفاعليته في الحياة الإنسانية

منذ وجد، كان للشعر مهمة رئيسة هي التغني بمفاهيم الأنسنة، وهذه المهمة بالذات درستها الباحثة المغربية الدكتورة حورية الخمليشي في كتابها الصادر حديثاً “الشعر وأنسنة العالم”، مع يقينها بأن الشعر ليس باستطاعته تغيير العالم، لكن دوره يتمثل في إيقاظه للضمير الإنساني، وفي التواصل الحضاري بين الشعوب والأمم لتأثيره على الروح الإنسانية.

لهذه الغاية تعود الدكتورة حورية الخمليشي إلى ينابيع القصيدة وتقف على معاني الشعر السامية التي ترمي إلى الانفتاح على ثقافات وحضارات مجتمعات، لا سيما أن شعراء من جنسيات مختلفة خلقوا عالماً إنسانيا جميلا، وناضلوا من أجل قضايا كبرى في زمنهم، وتعتبر أن الشعر تنوير تدريجي لتاريخ البشرية ولا تكتمل رسالة الشعر التنويرية إلا بمد الجسور مع روائع الشعر العالمي.

   

 

ما الدوافع التي حفزتك لوضع هذه الدراسة؟

 كتاب “الشعر وأنسنة العالم” جاء نتيجة خبرة طويلة في مجال الشعرية وأسسها النظرية والمعرفية، من حيث أبعادها ومفاهيمها وأجناسها وانفتاحها على شعريات العالم. والدوافع الأساسية التي حفزتني على وضع هذه الدراسة هو الإحساس بمشاعر القلق على مستقبل الإنسانية من جهة ومن جهة ثانية إغفال الدراسات الشعرية لأهمّية الشعر في صناعة إنسانية الإنسان في هذا الزمن الصعب. فالدراسة تشير إلى أهمّية الشعر وفاعليته في الحياة الإنسانية. ونحن نعيش في  زمن العنف الذي تحكمه الصراعات والتطرّفات المدمّرة لكل ما هو إنساني وجمالي في الشعر كما في الفن والحياة عموماً. مع العلم أن موضوع الشعر هو الإنسان وموضعه في هذا الكون ومحاولة تحديد علاقته بالحياة والوجود.

 ما الذي يقدّمه الشعر للإنسان؟

عمل الشعر عبر تاريخه على الرّقيّ بالإنسان إلى الأقوم والأسمى، وأقام علاقات إنسانية منفتحة على كل العالم. وأودّ أن أشير إلى أن الدراسة لا تهتمّ بوظيفة الشعر ولا بالاتجاه النفسي للأدب بل بقدرة الشعر على الرّقيّ بالإنسان وإقامة العلاقات الإنسانية التي تضمن السّلام للعالم في المجتمعات المختلفة، لدور الشعر في الإعلاء من العلاقات الإنسانية في تجاوز تامّ للاختلافات الدينية والعرقية والهوياتية.

 كيف يمكن للشعر أن يحمل قيَم الأنسنة، وكيف تطوّرت الأنسنة في الفكر العربي؟

الإنسانية عاطفة سامية يتقاسمها الناس في كل العالم. فهي لا تعرف جنساً ولا لوناً ولا وطناً. وأجمل ما في الشعر هو أنه يكتسب القدرة على مخاطبة الإنسان في كل زمان ومكان. وقد أشرت في العديد من الدراسات إلى مفهوم الزمن واللّحظة في القصيدة. فالشاعر لا يكتب لزمنه فقط ولكنّه يكتب أيضاً لزمن شعري مستقبلي. والشعر يحمل دائماً قيَم الأنسنة وفكر التّنوير. ونلمس هذا في كل الشعريات العالمية ذات الغنى الجمالي والإنساني الكوني سواء في الشعر العربي أو الأوروبي أو الأمريكي وفي الشعريات الكبرى الصينية واليابانية والهندية والفارسية. وارتبطت الأنسنة بفكر محمد أركون في كتابه “نزعة الأنسنة في الفكر العربي. جيل مسكويه والتوحيدي”. وقد ترجمه هاشم صالح إلى اللغة العربية. فمحمد أركون أهم من عمل على توسيع هذا المفهوم وتأسيس فكر إنسانوي في المجتمعات العربية الإسلامية. وقد أشار إلى وجود مذهب فكري إنساني في العصر الكلاسيكي بفعل التأثير الإغريقي الذي عرف ازدهاراً للعقلانية الفلسفية. وهو ما تراجع في العصور الموالية بسبب الانغلاق الثقافي.

هل كان للدين أثر في جعل الشعر روحاً تنبض إنسانية؟

للكتب السماوية أثر كبير في الشعر العربي سواء في التوراة أو الإنجيل أو القرآن. ويمتاز القرآن بأسلوب معجزٍ لم يعرفه تاريخ الأدب العربي. ومع ذلك فالشعر العربي بقي رافداً أساسياً لتفسير كتاب الله. فساهم مساهمة فعّالة في فهم القرآن وتأويله والإشادة بمعانيه، وهو ما لا يتأتّى للنص الديني.

ويظهر السّموّ الشعري الإنساني في الرسالة التي كتبها جبران المسيحي للمسلمين يقول فيها: “أنا مسيحي ولي فخر بذلك.. ولكنني أهوى النبي العربي، وأكبِّرُ اسمه، وأحبُّ مجد الإسلام وأخشى زواله..” وقد تأثّر معظم الشعراء المسيحيين بالقرآن وبأسلوبه المعجز كمارون عبود ويوسف الخال ورشيد سليم الخوري ونقولا فياض وإلياس فرحات والشاعر القروي وإيليا أبو ماضي وغيرهم. وتضمّنت أشعارهم العديد من الاقتباسات من تعابير القرآن. وأشادوا بالقيَم الإنسانية التي رافقت شخصية محمد (ص) وإن لم يعتنقوا دينه.

وتميّز رسالة الغفران لأبي العلاء المعري مثلاً نابعٌ من جمعها بين الرؤية الدينية والدنيوية، بالإضافة إلى رؤية شعرية وفلسفية غاية في الإبداع. وهو ما يمكن أن نقوله عن الكوميديا الإلهية لدانتي. فقد برع دانتي في خلق عوالم الخير والشر. فمردّ الشرّ عنده راجعٌ إلى سلوك الإنسان نفسه الذي يلقي مسؤوليته دائماً على حكمة الرب. فملأ الجحيم بهؤلاء الأشخاص، وخصّص للعلماء والفضلاء أماكن في الفردوس تتناسب مع ما قاموا به من جليل الأعمال.

وقد نجح شعراء المهجر في استخدام معجم الكتاب المقدّس الذي تُرجِم إلى اللغة العربية. وجاءت أشعار شعراء الرابطة القلمية من لبنان وسوريا شديدة التأثير بالتراتيل البروتستانية العربية وأسلوب الكتاب المقدّس. وكانت الترانيم البروتستانية تستخدم العروض الإنجليزي لأنها كانت تُنشَد في الكنائس مصحوبة بالعزف على آلة البيانو. وبذلك شكّلت أشعار المهجريين منعطفاً كبيراً في تجديد بنية القصيدة العربية وشكلها.

هل يهدف الشعر الصوفي إلى اختراق عمق الإنسان وإخراج روحانيته إلى العلن وإقامة حوار بينه وبين الله؟

يشكّل الشعر الصوفي تجربة خصبة لتعايش الأديان والعقائد وحوار الحضارات. فالتصوّف في حدّ ذاته تجَاوَز فكرة التعايش مع الآخر إلى محبّة الآخر واحترامه والإحسان إليه. فهو استقامة في سلوك الفرد. لأنه يقوم على تجربة ذوقية وجدانية وعلى الكشف الإلهي الذي ينير القلوب لتنكشف لها بعض المعارف والحقائق الكونية. وقد رفع ابن عربي الحب إلى مرتبة الدين بعد أن جعل من الحب الدين الكامل الذي يشمل كل الديانات فصنع عالماً جميلاً بنور الحب. فالعالم عنده كله محب ومحبوب. والعالم كله يقدّم حبه لخالق الكون.

 التبادل الثقافي بين الشعوب هل يغني التجربة الشعرية ويزودها بتجارب إنسانية تؤثر إيجاباً في الوعي الجماعي؟

حينما نتحدّث عن المثاقفة أول ما يتبادر إلى ذهننا هو سؤال الترجمة. فالترجمة لعبت دوراً هامّاً في التقارب بين الشعوب والحضارات المختلفة . ولترجمة الشعر أهمّية كبرى في الانفتاح على الشعريات العالمية، والدور الفعال في تجديد الشعر العربي. فلم تعرف القصيدة العربية مسألة الأجناس الشعرية إلا عن طريق الترجمة والانفتاح على الشعر الأوروبي والأمريكي. والقصيدة العربية في زمننا منفتحة على شعريات العالم. كما أن لغتنا العربية استضافت العديد من الأعمال الشعرية العظيمة كإلياذة هوميروس ومنطق الطير لفريد الدين العطار ومثنوي جلال الدين الرومي والكوميديا الإلهية لدانتي وغيرها.

ما دور الكتابة النسائية في ظل ما يعرفه الواقع الإنساني المعاصر؟

حاولت تسليط الضوء على نماذج من الكتابة النسائية لكاتبات من ثقافات ومجتمعات وديانات مختلفة. كان لإنتاجاتهن دور في تعميق النّزعة الإنسانية، وترسيخ منظومة القيَم. وعرف الأدب العربي شاعرات وروائيات وناقدات مرموقات عملن على الارتقاء بالثقافة العربية في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الحديث كالخنساء وولادة بنت المستكفي ومي زيادة وغيرهن. فالمرأة المبدعة لم تكن مرتبتها أدنى من مرتبة الرّجل الذي كانت له الهيمنة الذكورية. من وجهة نظري ليس هناك فرق بين أدب من إنتاج الرّجل وأدب من إنتاج المرأة. ما يهمّ هو أدبية الأدب لا غير.

  أين موقع الشعر في الحروب والأزمات السياسية؟  

الشعر رسالة إنسانية سامية زمن الحروب والفتن السياسية التي تؤدّي إلى انتشار ثقافة العنف. وفي هذه الدراسة حاولت الرجوع إلى شعراء عاشوا حروباً وأزمات سياسية قريبة من زمننا، ناضلوا من أجل الحرّية، ومنهم من أدّت به أشعاره إلى النّفي والسجن لسنوات عديدة. وكان لهم كبير الأثر في محاربة الظّلم والاستبداد. فكانوا رموزاً  في نشر الفكر التنويري كأمين الريحاني مثلاً وناظم حكمت ويوهان غوته وطاغور وغيرهم. فأمين الريحاني أفنى حياته في محاربة الجهل والتّعصّب والتّطرّف، ودعا إلى التّعايش الإنساني، فأعلن انتماءه إلى كل الوطن العربي وإلى الإنسانية جمعاء بعد أن عانى من تدهور الأحوال السياسية والاجتماعية. إلا أن هجرته إلى أمريكا لم تُغيّر شيئا من تمسّكه بعروبته ووطنه. فالريحاني كان يسعى إلى رؤية إنسانية لتأسيس مجتمع عربي متكافئ قائم على أسس الحرّية والعدالة الاجتماعية.

هل نجح الشعر المغنى في الحد من ثقافة العنف ونشر ثقافة المحبة والسلام؟

الشعر والغناء عنصر تواصل رفيع، فالموسيقى جوهر الشعر. وقد جعل الفارابي الصناعة الشعرية رئيسة الهيئة الموسيقية. وللأغنية دور كبير في تحقيق أواصر التواصل والصداقة الإنسانية ونشر المحبة والسلام والتّعايش السلمي بين الجنسيات والثقافات المختلفة لتأثيرها الكبير على الروح الإنسانية. فلا يمكن لشيء أن يقلّص ويقف في وجه العنف الاجتماعي إلا الروح الإنسانية. لأن العنف لا يواجه بالعنف. فأغاني فيروز مثلاً وبوب مارلي ويوسف إسلام (Cat Stevens) من أكثر الأصوات انتشاراً في كل العالم. وقد امتازوا بأغانيهم الإنسانية المقدّسة للحب والسلام بين كل البشر من أجل إسعاد الفرد والمجتمع.

اترك رد