“اللغة الأم”…

ميشلين حبيب

(أديبة- لبنان)

إن فكّرنا مليًّا بأصل اللغة، نجد أن لغة الإنسان الأم هي الإشارة النابعة من الصمت. والصمت هو اللغة الأقوى لأنها اللغة التي من خلالها يتواصل الإنسان مع نفسه وفي أحيان ومواقف كثيرة مع الخارج أيضًا. فالصمت هو المعيار الأول والأهم في الإصغاء، في الصلاة، في الفن، في الثقافة، في الحب، في الأدب، وفي الحياة. ثم تأتي اللغة لتعبّر عما فعله الصمت في داخلنا، وأحيانًا كثيرة يكون للصمت أبلغ تعبير.

عندما كنت في مسرح المدينة بشهر شباط أشاهد العرض المنفرد للراقص ومصمم الرقص بيار جعجع بعنوان “اللغة الأم” أو Mother Tongue، ساد على الصالة والحضور صمت عميق. فرض بيار جعجع على خشبة المسرح والحضور لغته وأدخلهم إلى عالمه، عالم الصمت والإشارة بمرافقة موسيقية حيّة للفنانين شريف صحناوي (الغيتار الكهربائي) وطوني إيليّه (بايس)، اللذين كلّما بيار والجمهور بموسيقاهما التجريبية المميّزة.

تجربة مختلفة

هي تجربة مختلفة للمشاهد تزيد على ثقافته وحسّه الجمالي وأيضًا على تواصله مع إنسانيته، ومع نفسه، ومع الآخر وتُدخله إلى عالم بعيد عنه أو لا يفكر فيه.

“اللغة الأم” عرض راقص مميّز ومؤثّر يقدّم لنا فنًّا جميلًا، ثم يُدخلنا إلى عالم الصمت الذي يعيش فيه أشخاص وُلدوا كذلك أو أصبحوا كذلك. ما فعله بيار جعجع يدلّ على عظمة الخالق وقوة الإرادة وروعة الفن والموهبة.

هذا العرض الراقص الذي نراه اليوم مجسّدًا على خشبة المسرح هو نتيجة مسيرة طويلة من المثابرة والإصرار والجهد والعزم انطلقت من عشق بيار لفن الرقص فقرر، وهو الذي لم يسمع صوتًا واحدًا منذ ولادته، تعليم نفسه الاستماع إلى الموسيقى وكان عندها في الثانية عشرة من العمر، استطاع خلالها أن يطوّر قدرة جزئية على السمع ليصبح بعدها راقصًا محترفًا.

“اللغة الأم” عرض رائع من حيث الحركة والموسيقى والفكرة تنفيذًا وتصميمًا وأداءًا راقصًا وإخراجًا، استخدم جعجع خلاله طاولة، وكرسيًّا، و”مكعّب روبيك”، وستارة، وشاشة شفّافة (تُرى الحركات من خلفها) ليتواصل معنا. شكّلت تلك الأشياء أداة للراقص كي يتواصل من خلالها مع الجمهور، وعبّرت بكل ما فيها من رموز ودلائل عن حياته وعلاقته الفريدة بالموسيقى والصوت؛ إذ كان قبل سن الثانية عشرة خجولًا ويقضي معظم وقته لوحده دون التواصل مع أحد. فالمكعّب، على سبيل المثال، يرمز إلى عملية تركيب الجملة وكيفية حلّ معضلة معينة.

سبق أن عُرض “اللغة الأم” سنة 2014 على مسرح مونو وعلى مسرح الجميزة، وأيضًا في لندن، وهذه السنة على مسرح المدينة في شهر شباط، وفي سويسرا بشهر آذار.

بداية مشوار

“اللغة الأم” هو قصة بداية مشوار بيار جعجع مع الصوت والتواصل. “اللغة الأم” عرض راقص بامتياز، رأيتُ خلاله راقصًا محترفًا، متناسق الحركات، متحكّمًا بجسده، ليّنًا يتحرك مع الموسيقى أحيانًا وتتحرك الموسيقى معه أحيانًا أخرى.

شريحة من الجمهور استمتعت جدًا، أما آخرون تضايقوا من الصمت وعدم فهم اللغة التي استخدمها بيار خلال عرضه الراقص. هنا يطرح سؤال نفسه: هل أتى الناس، من باب الفضول، ليشاهدوا راقصًا أصمّ يتحرك على أنغام موسيقى لا يسمعها؟ أم حضروا ليروا عرضًا فنيًّا راقصًا؟

 

لو كان الراقص شخصًا غير أصمّ واختار عرضًا راقصًا يعبّر في معظمه من خلال حركته وبعض الموسيقى بصمت كما فعل بيار، هل كنا لنفهمه أو نقبله أو نتفاعل معه أكثر؟ ربما نعم، وذلك ليس لأنه يختلف عن بيار في احترافية الرقص، إنما لأننا نعلم مسبقًا أنه غير أصمّ ونتّفق معه أنه يأتي بشيء جديد. هذا غير مقبول، فالإبداع لا يتقوقع خلف حدود وموانع، إنما يتخطى كل الحواجز، فهو خُلق ليحلّق وليس ليُحصر أو يُسجن.

نحن نسمع الموسيقى، وبيار يشعر بها ويترجمها أداءًا راقصًا. “اللغة الأم” عرض خارج عن المألوف يستحق المشاهدة. بيار جعجع راقص محترف ومبدع قادر أن يجذب الجمهور ويضيف فنًّا وثقافة على الساحة الفنية والثقافية والإنسانية إن صحّ التعبير. نجح في لفت نظر الناس إلى عالم الصمت وإدخالهم ولو لبرهة إلى هذا العالم الذي وُلد فيه. كل ما هو مطلوب بعد ذلك أن يقصد الجمهور المسرح بذهنية الباحث عن الفن لأنه سيجده عند بيار جعجع.

لا شك أن المطلوب أيضًا وبقوة هو دعم وزارة الثقافة للمبدعين بشكل عام، والمبدعين مثل بيار جعجع بشكل خاص. في النهاية، عندما تقف الكلمات عاجزة أمام أمور كثيرة في حياة الإنسان، لا يبق لدينا إلا الصمت.

 

 

اترك رد